.

.

الشاعر محمود الأزهري يكتب : قراءة في أغنية "الولد الفوضوي" لـ محمود مغربي

الشاعر محمود الأزهري
هل من المجدي حقا حين نتكلم عن شعر أن نتحدث بحرية عن الشاعر وعن سيرته ؟ أما محمود مغربي فهو ظاهرة إبداعية في إقليمه الجنوبي ، هذا الشاب قصيدة تسير في طرقات قنا هادئة قصيدة تعلق على كتفها حقيبة تحمل قصائد أخري جديدة تنشرها على شعور البنات في عربات الميكروباس حين يعاكسن القصيدة التي نزلت من فوق _ ليس هنا مجاز _
ويترجينها أن يدفعن لها الأجرة بشرط أن يدخلن في جحيمها في الإلقاء الشعري القادم ! محمود مغربي قصيدة جديدة شابة واعدة بمفاهيم الزمان الذي نعيش فيه _ رغما عنا _ أتريدون دليلا أكثر من الشيب الذي يعلو رأس هذه القصيدة ؟! إذن فمحمود مغربي وجيله لا يعد بتقديم قصيدة بمقاييس جمالية تصلح أن تدخل بها في مسابقات ملكات جمال العالم ،هو يقدم قصيدته هو كما اصطادها من محيط ملكوته الذي يتربع على عرشه ،ولا ننكر عليه قصيدته إلا بمقدار ما تخرج قصيدته عن شرطنا الخاص وطموحنا الخاص لخلق القصيدة ...، وإذا كان لنا الحرية في أن يكون لنا شرط خاص للقصيدة فكيف ننكر أن يكون للآخر الحق في أن يمارس سلطته على قصيدته هو لا قصيدة أحد سواه ؟! أنا ذاتي مجمعة على أن
محمود مغربي شاعر كبير وسوف أحبه لذلك كثيرا حتى أموت ، وسوف أختلف مع قصيدته في مناطق كثيرة _ ربما _ صدامات عنيفة حتى أحيا!!
" أغنية الولد الفوضوي " هي الترنيم الأول للشاعر الذي بدأ ممارسة نشر محاولاته الشعرية الأولي منذ 1981 م ، وقصائد المجموعة كتبت في خلال ثماني سنوات من 1984 م إلي 1992م ونشرت في 1994 إذن
فهناك قصائد البدايات قبل 84لم تنشر في المجموعة أين هي ؟وهل من حق الشاعر أن يعدمها ؟ أليس من حق التاريخ الأدبي أن يطلع على جميع عورات الشاعر؟ وأيضا فمن 92 إلي 94 سنتان من المؤكد أن الشاعر أنجز شعرا في هذه الفترة الزمنية فهل كان هذا المنجز يعبر عن استمرارية التجربة المكتوبة في الديوان أم حدث تغير في التجربة لاحظ أن الناس منذ 94 زمن صدور الديوان يقرأ ون تجربة 84 _ 92 وكأنهم يقرأ ون محمود الآن ؟ ويلاحظ أنه لم تتم الإشارة إلي أماكن كتابة القصائد مما قد يعني اتحاد المكان وهو بحسب الظاهر ـ مدينة قنا التي يسكنها الشاعر ـ نحن لا نقول إن قراءة النص لا تصح إلا في زمانه ومكانه لأن النص نص بذاته ، ولكننا لا ننكر أهمية الزمان والمكان في قدرتهما على فضح أشياء قد تكون باطنه داخل النصوص وإذا كنا نحن لا نشترط هذا فينبغي أن نعطي الفرصة للثرثارين لممارسة دورهم المزعج في النقد الأدبي المدرسي الخلاق !!
أغنية الولد الفوضوي :
ما زال الشاعر مغنيا منذ بدأ الله الشعر رغم خراب العالم وفساد الأناشيد
... العربي الهائم في دروب الصحراء لا يجد مؤنسا له سوي صوته فهما
اثنان هو وصوته صاحبه ، والعربي الهائم في الصحراء فوق راحلته لا يجد جهة يقدم لها الشكوى سوي راحلته فهي صاحبته ، والعربي وفي فكما استمعت إليه الراحلة يشكو ينبغي عليه أن يقدم لها المتعة والشجن ليعينها على تحمل مرار المسافات وعبثية المكان والتغرب حين تنحصر الذات بذاتها لعجز اللسان عن النطق أو لعدم جدوى النطق أساسا فيحدو لها بالغناء البهي . والعربي وصوته وراحلته ليس له سوي أن يتوجه نحو الخيام قبلة الحبيب ، تلك القبلة الفطرية البشرية قبل نزول خبر السماء عن وجود قبلة الله ! محمود مغربي هو هذا الشاعر الهائم في دروب المدينة الجنوبية التي هي ما أشبهها بالصحراء أمام وهم الشمال ، والشعر الجنوبي لا يملك إلا صوته في حالة اغترابه عن العالم لكي يقيم معه حوارا متكافئا وشكاوى صادمة عن انكسار الذات وهزيمة الوطن وفقدان المحبوب وضياع قبلة الخيام بعد وجود القبلة الرئيسة أعني قلق الرغبة البشرية وما تأسس عليه المجتمع العربي / المسلم / الصعيدي الذي يجعل المحبوبة وهما ، ويجعل المحبوبة حلما ، ويجعل فعل الحب هو نفسه فعل القلق وهو نفسه فعل القصيدة التي تتحول إلي أغنية ليكون الشاعر هو المغني الذي يريد أن يلتف حوله الجمهور ربما تجد الحبيبة مبررا للحضور علنا ، علنا نكون فهمنا بالروح ـ إذن ـلماذا عنوان كتابة محمود مغربي هو أغنية الولد الفوضوي ! والكتابة تحكي عشق صاحبها للغناء وتفضح إرادة صاحبها في أن يمارس دور المغني في وطنه ، الكتابة بها ست قصائد كل واحدة منها حملت عنوان الغناء وهي :ـ
1ـ أغنية خلاص وبشارة .
2ـ صوت يغني .
3ـ عودة النشيد .
4ـ أغنية البعاد الجميل.
5ـ أغنية أخري .
6ـ أغنية .....
الأغنية كمفردة تقابلنا أول ما تقابلنا في وقت تشتد حاجة الجماعة إلي الأغنية حين يكون الهم جماعيا وحين يكون الانكسار ممتدا عبر أزمنة تخجل لأن العرب يعيشون فيها الخطاب للفارس المنتظر الذي سوف ينشل العروبة من موتها : أيها الولد الفارس المنتظر كيف نعطيك والكف شح شحيح ؟ كيف تمسك ما تشتهي ؟ كيف يأتي المدد ؟ والعواطف في الأرض تجمح كيف تطوى يديك على بعض هذا المدد ؟! والسماء تفتح قمصانها للطيور الجوارح ... هذي الطيور تجهز مصطبة للتواريخ .. مأدبة للفتوحات .. أغنية للسيوف القواطع ! أسئلة متعددة للفارس المجهول ، السؤال نفسه دال على أننا لا نمتلك إجابة والأسئلة تحكي حالة العجز والشلل الكلي ، والأسئلة مصحوبة بواو الحال التي توازى بين حالة عجزنا وبين حال السماء التي تفتح قمصانها للطيور الجوارح ... السماء التي هي بحكم التراث من الطبيعي أن تكون في صفنا ولكنها سماء ضد . تمنح نفسها للآخر القوى الطيور الجوارح . هذه الطيور بخبث سماوي تدخل في أدق خصوصياتنا فتجهز لنا " مصطبة" للتواريخ وتجهز للفتوحات " مأدبة "
وتجهز للسيوف الهندية القواطع " أغنية "" ولا نحب أن نحول النص الأدبي إلي خطاب سياسي مبتذل ، وإن كانت اللهجة السياسية مطروحة في النص من بدايته فهو الذي تحمل جراحه ونحن لم نضف إليه دما فاسدا جديدا ! وفي " أغنية خلاص وبشارة " يقوم الشاعر بدوره التقليدي في تعبيره عن ضمير الأمة وتسجيله لما يجرى في أمته من أحداث ، القصيدة تتحدث عن انتفاضة الحجارة في بساطة وعفوية من خلال مفردات شاعرة تطلب من الأحجار لا البشر أن تغني للأطفال لا للقادة أغنية خلاص من الحاضر وخلاص من الماضي ـ ربما ـ وبشارة بالمستقبل وبشارة باليوم الآخر ـ ربما . هذا كله يقف في جانب القصيدة وفي صالحها ولكن النص الشعري لم يقدم رؤية مغايرة للحدث عما هو سائد سواء في الكتابات الشعرية أو الكتابات النثرية على حد سواء ، وهذا عندي ليس في صالح النص الشعري الحديث كما سأبين ذلك في جزء خاص من القراءة ـ
" خارجا يرتدى ديناميت السفر " هذا العنوان المشتبك مع الثورة والتمرد ـ
خارجا ـ واستدعاء الذاكرة الانتحارية ـ يرتدى ديناميت السفر ـ ثمة ربط بين الهم العام الجمعي حين يكتب مغربي قصيدته بهذا العنوان وبين الهم الفردي ومشكلة الذات مع مفرداتها الخاصة : الحب والعشق والاغتراب ، فهذه الذات المثقلة بالصبابة ، النازفة فوق حجر القصيدة ، الحاملة عودها المنكسر !! عودها المنكسر هو نفسه " الغنوة " ولاحظ معي أن المفردة هي غنوة التي تقترب بنا أكثر من البساطة والشعبية وليست أغنية هذه المفردة المعجمية الرسمية ! هذه الغنوة خبأتها يد الذات على حافة النار ... هذه الذات تحلم ـ ولا تملك إلا الحلم : " تبتغي أن تلم الحنين المبعثر في شفتي زوجتك وتغني لها غنوة في الصباح ..". وقصيدة " صوت يغني " هي امتداد لحالة الشاعر وعشقه للغناء وأهمية أن تغني الذات للخلاص من آلامها ولتتطهر من عذابها فالقصيدة خطاب للمحبوبة التي مضت والذي ينشق قلبها عنه ويعلن عصيانه ويباغت الشاعر في السكون اللزج ، هذا الخطاب الذي يكرس لفقد الحبيبة ولا يبقي سوي اسم يحمل رسمها ..رغم الضباب وما زال صوت يغني لأن الشاعر هو الذي يؤسس الأمل وهو الذي يؤسس البشارة ! وفي قصيدة " عودة النشيد " تتحول الأغنية إلي نشيد ما الفرق ؟ الأغنية قد تكون فعلا فرديا ذاتيا ولكن الأناشيد هي جماعية وقومية وتعطي شعورا بالنصر وشعورا بالوحدة . وإذن فعودة النشيد تعطي إيحاء وكأنه قد عاد ولكنه لم يعد والشاعر الجنوبي محمود مغربي يقول : وأوغل صوب الجنوب .. كيف يوغل فيه وهو يسكن فيه كأنه تمني أن ينفيه؟ إذن لا يمكن أن نفهم الإيغال إلا بأنه رحلة الذات داخل ذاتها والمسافة بين الجنوب / الجنوب ، والجنوب / الحلم ... ولا يصدمنا الشاعر حين نري في آخر قصيدته أنه يحلم بأن يعود النشيد لأنه قد عاد بالفعل كما يوهم العنوان فهو: " يجلو فوانيس روحه ..." ثمة تقرير أن الروح مظلمة صدئة : " لكي تمنح الطير ميزان عدل ..." هنا شكوى مرفوعة للعادل
" يعيد النشيد إلي ثغر عشاقه ويشد الينابيع من سره النيل جهرا يعيد السحاب" . وطبيعي أن يعلن الشاعر في جرأة واعتراف أحسده عليه
: " محمود جن ورب الكعبة " .. وجن لأنه يبغي أغنية علوية ، جن لأنه يريد أن تنزل عليه أغنية في زمن مجنون كافر بالغناء ، ومحمود جن لأنه يبغي أن ترجع أطيار النورس لتغني أغنية خلاص . ولكنه يركب رأسه ويمارس غواية الشعر بدلا من أن يركب هذا الزمن الخائن ويأخذ حقه ناشفا قصيدة " مقاطع إلي زينب " ، زينب هي الحلم الوحيد المتحقق في كتابة محمود مغربي . " .. وزينب بنت وحقل وماء حوالي تضحك ..." هنا شراكة في الفرح واشتراك في المكان : أرفقها في المسير وحضور في الزمن : إننا الآن نشعل في سمعه غنوة من زمان . الطفولة ! الغنوة يتم استحضارها من الطرفين من زمان الطفولة الماضي :
" ومواسم زينب تشعل الفضاء بالغناء " تشعل في الحاضر والمستقبل ، تشعل فعل مواسم زينب هناك ابتعاد طرف وحضور طرف ثان ... تتحول زينب إلي حضور في ذاكرة الشاعر لأنه غائب عن حضرتها .. في ذاكرته يبصر في راحتيها شموسا غناء " لزينب هذا الحضور الشفيق ولي كل هذا السمار المنمق في راحتيها شموس / غناء ". هكذا يستمر محمود مغربي في توظيف مفردة الأغنية وما يشتق منها وفي توظيف مفردة غني وما يشتق منها على رأى الكوفيين الذين يقولون : إن الاشتقاق يكون من الفعل لا من المصدر وطبيعي أن يكون رأى البصريين هو الأرجح لأن الفعل أساسا حرام علينا !! يوظفها كتعبير عن روح شعرية فياضة وكرغبة ملحة لتحقيق الحلم وتحقيق التمرد وككتابة من وراء ستار عن غياب الفرح وغياب الحقيقة ..، لا تتغير رؤية مغربي للغناء إلا في الصفحة قبل الأخيرة حين يصف الشيء الجمالي الخلاق بالعبثية حين يقول : " فكل القصائد ملغومة بالحنين المعني وكل الأناشيد محض هباء ". إذن فهنا تعميم في الكم وهنا حكم في الشعر ولكن أليس هذا الحكم القضائي صادقا في ظرفنا الخاص الذي نعيشه ؟ وهل محمود مغربي في آخر ورقة من ديوانه اكتشف أنه كان مخدوعا من بداية الرحلة حين كان ينتظر أغنية علوية ويطلب من الأحجار أن تغني أغنية للأطفال وللثورة ، وحين كان يبصر في راحتي زينب شموس الغناء ؟! هل اكتشف أن ذلك كله زيف ؟ وهل يعني هذا وجود وعي جديد مغاير سيكتبه محمود مغربي في كتاباته التالية المنتظر ؟ سؤال نرجئ الإجابة عنه الآن !
المقاطع لماذا ؟ خمس قصائد في الديوان عنوانها مقاطع هي :
1ـ مقاطع صغيرة .
2ـ مقاطع إلي زينب .
3ـ مقاطع قصيرة .
4ـ مقاطع إلي ذات الوجه المستدير .
5ـ مقاطع من كراسة الولد القروي .
المقاطع عند محمود مغربي ليس كما يوحي جذر الكلمة ق ط ع فهي لا تحمل أي قطع في الكتابة وليس فيها أي قطيعة في الروح ، المقاطع هي حالة واحدة من الذاتية ، المقاطع الصغيرة فيها رجوع الذات إلي ذاتها والتحامها بها في حنان وحب : " محمود جن ورب الكعبة .." هنا يتحد الكاتب بالمكتوب دون أن نصدر أي حكم على أيهما بالردة ، وارتداد الذات إلي ذاتها ليس انغلاقا بل هو فتح وكشف لعوالم أخري يعتقدها الشاعر أكثر إشراقا فهو : "... يسبح في شرنقة الليل يبحث عن أعراس الجن وأعراس النيل وأعراس الليل .. يبغي أغنية علوية ". هذا الاتحاد العفوي المنساب بلا انفعال بين الكاتب وكتابته فالشاعر محمود مغربي هو الذي كتب عن محمود : إنه يرتق بعض قصائده الغزلية .. ويهديها للفتيات ! الترتيق هنا ليس حقيقة ، الترتيق هنا محض خدع ، كتابة محمود في الواقع نسيج طبيعي إلا قليلا . " مقاطع إلي زينب" هي كذلك التحام وتكامل مع الذات الأخرى : الأنثى ، وحين تبدأ القصيدة : وزينب بنت وحقل وماء ! فهذه الواو الأولي تنقي أي قطيعة للروح مع زينب فنحن لنا بها سابق معرفة في قديم الأزل وقصيدة "مقاطع قصيرة " تعطي بعدا جديدا لماهية المقاطع عند الشاعر فهي ليست اتحادا بين ذات وذاتها من أجل نرجسية الذات وليست تناغما بين ذات ذكر وذات أنثى ، بل هي مقاطع تعبر أيضا عن اتحاد بين الذات وهموم العالم حين نكون سئمنا الوقوف بلا أجنحة وحين نكون سئمنا البطون التي لا تلد غير طفل المهانة ! وكما يكون الالتحام العاطفي بين الذات الشاعرة والذات الأنثى المعلومة باسمها يكون الشجن مع ذات أنثى مجهولة ذات وجه مستدير والذات حين تتحد مع ذاتها أو مع الذات الأنثى لا يتم هذا الاتحاد في سذاجة بل ثمة وعي بما نحن فيه من ضلال وزيف وغمام لا ينزل مطرا : " ضللتك المنافي .. فما عاد يجدي التيم والنهر خلفك " ومع أن المعرفة تكشف لنا ضلالنا القديم الحادث ومع أن أعيننا تعطينا بصيرة بتحقيق الحلم / النهر على أرض الواقع ولكننا مع ذلك واقعون في حالة من العجز الغرائبي ! أنا قلت من البداية إن تسمية القصائد باسم مقاطع ما هو إلا التحام الذات بالذات واتحادها بالذات الأخرى الأنثى وقلت : إنه ليس في القصائد دلالة على القطع والقطيعة ؟ هذا الكلام صواب من أي وجه ؟! ألا يعبر هذا الاتحاد نفسه عن قطيعة مع العالم الخارجي باستثناء ذات واحدة أو ذاتين منصهرتين في ذات ؟ ألا يعبر هذا الانصهار نفسه عن قطع في الزمن الخارجي في سبيل تشكيل الذات الشاعرة لزمنها الخاص الذي يمكنها فيه وجدان ذاتها المشطورة كما لو كانت ذرة ما !!
الذاكرة الشعرية :
(أيها الولد الفارس المنتظر ـ الفتوحات ـ المواقيت ـ الصباحات ـ يساقط الرطب ـ يا أيها الوطن المسافر دمي .... إلخ ) . من الطبيعي أن يكون الشاعر صديقا لقراءته مخلصا لها لكن أن تتدخل هذه القراءة في كتابة الشاعر بشكل فج وبصورة مباشرة تصبح القراءة عدوا لدودا تجب محاربته والتخلص منه !ومن الطبيعي أن نحب الشعر وأن نحب صورا معينة منه نختزنها في الذاكرة ولكن الخطر! أن تسيطر الذاكرة الشعرية على الشاعر ؛ في الديوان حدث هذا كثيرا والتعابير والصور السابقة بعض منه ، ولا شك أن ذلك يضعف بنية الشعر ويجعله غير كامل الحرية ... وخطورة سيطرة الذاكرة الشعرية أنها ستؤدي بنا في نهاية الأمر إلي كتابة نفس المفردات وإلي كتابة نفس الصور مما يؤدي بدوره إلي تقديم نفس الرؤى بما يفقدها قيمتها مع مرور الزمن !لهذا فمن المهم أن يبتر الشاعر كل شيء لا ينتمي له وعلينا كأبناء جيل واحد متقارب أن ينبه بعضنا بعضا إلي ذلك لأن الشاعر وقت انهماكه في الكتابة لا يكون على وعي كامل بما يخرج منه وحين يعود إليه الوعي يعز عليه أن يبتر حرفا واحدا خرج منه وقت لا وعيه ...!!
فطرية الكتابة
من ملامح الديوان التي تضاف إلي رصيده الشعري أننا نري فطرية في الكتابة وعفوية في الغناء فليس هنا تكلف بل ماء يجري ، العرب الأقدمون كانوا يسمون الشعر المتكلف المصنوع الجاري على قواعد الشعر إنه ليس به ماء !! محمود مغربي شعره كله ماء بل هو محيط من سلسبيل حين تقرأ النشيد فتحس بالنظام لا النظم فجدير بنا أن نستعيده وأن نعيد قراءته والغوص بداخل روح النشيد ،وحين تقرأ أغاني مغربي لا تحس أن هناك نية مسبقة لكتابة القصيدة بل القصيدة تأتي إلي الشاعر بناء على شرطها ! ومفردة مغربي هي بالأساس مفردة شعرية بمعني أنها موجودة في التراث الشعري العربي وبالتحديد الشعر المعاصر وبالتالي فهي مفردة تسجنك في شعريتها وهي كما نجح محمود مغربي معاد ، توظيفها في أغنية الولد الفوضوي بحيث لا تجتر نفسها في التركيبات والصور والأنماط الشعرية السابقة إلا قليلا كما أشرنا إلي ذلك ... وإذن فهي مفردة بسيطة لا تحتاج إلي القاموس بقدر حاجتها إلي الروح لكي تكشف عن عطائها الجديد بداخلها وهي مفردة شاعرة لأنها مستقاة أساسا من الشعر ، وهذه المسألة أعني : إن مفردة مغربي مستقاة أساسا من الشعر ومؤسسة عليه جعل القاموس الخاص للشاعر ضئيلا متواضعا وهذه مسالة ليست في صالح المجموعة وليست في صالح الشعر ، بل هي ضد الشعر ، فمفردات الديوان كلها مفردات شعرية يمكن إحصاؤها ولا يوجد أي ابتكار من الشاعر في خلق مفردات جديدة وإدخالها في سياق تجربته الشعرية ليؤسس لوضع قاموسه الخاص ، وهذه مسألة ينبغي أن يهتم بها جدا الشاعر في تجاربه المستقبلية حتى لا يضطر الشاعر إلي تكرار نفس التجربة ونفس المعطي ونفس القصيدة بسبب محدودية القاموس وحبسه ذاته في عدد معين من المفردات التي لن يغفر لها ـ حين ذاك ـ كونها مفردات شاعرة . وهنا ملاحظة أخري ، فقد رأينا الديوان متسقا مع ذات صاحبه فجاء غنائيا حزينا ورأينا الديوان متسقا مع هموم وطنه العربي على مستوي المضامين والأطروحات ..!! ولكننا رأينا الديوان غير متسق مع ظرفه الزمني من حيث فعل الكتابة فالظرف الزمني الراهن تطرح فيه بقوة إشكالية الكتابة الموسيقي والبناء بشكل عام لكن قارئ الديوان يحس كما لو كان الديوان مكتوبا في فترة زمنية بعيدة نسبيا ! المجموعة تنطلق من أرض الخليل ومبنية على التفعيلة وإن كانت تتمرد عليها والقصيدة تتشكل في بنائها وصورها بشكل قريب جدا من الرومانتيكية ، هذا الشكل الذي نراه غريبا عن ظروف اللحظة الراهنة ولكننا نراه قريبا من قلب الشاعر ولرؤيته لدور الشاعر في مجتمعه وحبه للغناء .. ونحن واثقون أن الشاعر سوف يتجاوز هذا  الفضاء إلي فضاءات أخري أكثر رحابة بعد أن قمنا بفضحه وتعريته وأرجو أن أكون قد نجحت في ذلك !!
شاركه على جوجل بلس

عن جريدة النداء المصرية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق