.

.

جيهان مأمون تكتب:المحتسب و رجاله الأشداء



هيا بنا نرتحل إلى الماضى البعيد ، إلى العصر المملوكى ، تتوارى السنين ، يبطل الحس و تخمد الأصوات ، لقد عدنا للوراء لأكثر من خمسمائة عام ، نحن الآن على مشارف القاهرة المملوكية حيث يقف الحراس المدججين بالأسلحة أمام البوابات الضخمة التى تفتح مع شروق الشمس فتتدفق جموع الناس و تدب الحياة فى المدينة الفسيحة الأرجاء .

 نحن الآن بداخل شارع القصبة ، الشارع الأعظم شريان المدينة الرئيسى و مركز النشاط الصناعى و التجارى ، تتعالى فى الجو سيمفونية فريدة من النداءات المنغمة للبائعين ، ( الله يهون يا ليمون) ، ( أبيض عالى و الثمن غالى ) ، (بالضفر يا حلاوة) ، ( عطور الجنة يا ورد حنة) .... تصطف الحوانيت على جانبى الطريق ويجلس أصحابها على مصاطب مفروشة بالسجاد و الحصير على أبواب الدكاكين لإستقبال الزبائن ، ضمت القاهرة 12،000 حانوتا تزخر بسائر أصناف البضائع و السلع ، كان هناك أسواق متخصصة يبيع كل منها سلعة معينة فسوق الشرابشيين يعرض الخلع والملابس ، و سوق الحوائصين يعرض الأحزمة و المناطق ، و يتخصص سوق المرحلين فى بيع أدوات تجهيز الجمال فى موسم الحج ، وسوق الصنادقية فى بيع صناديق حفظ الملابس بديل الدولاب اليوم ، و يعرض سوق الفرائين فراء حيوان السمور أى النمس و فراء الوشق ، نوع من أنواع القطط البرية ، و فراء القماقم حيوان يشبه السنجاب ، و فراء السنجاب الناعم لتزيين ملابس الفرسان ، و يقوم الباعة بكنس الشوارع أمام دكاكينهم ورشها بالماء كما أمر الوالى و من يخالف هذا الأمر يقع فريسة لعقاب المحتسب .


 الحسبة كانت وظيفة دينية تعد من أشرف الوظائف ، كان المحتسبون قضاة تمتعوا بعلم وافر مع العفة و النزاهة و ملكوا سلطة و نفوذ شديدن لتنفيذ مهمتهم و هى حماية المجتمع إجتماعيا و معنويا و حماية المستهلك ... أشرفوا على مراعاة الآداب العامة ووأد الفتن و الشائعات ، وخضعت الأسواق لسلطتهم و إشرافهم فمنعوا الغش فى الموازين و راجعوا دقة وحدات القياس و التسعيرة والرسوم والمكوس .

كان للأسواق تقاليد صارمة‏ لا يستطيع أحد مخالفتها و إلا تعرض للعقاب الشديد على يد رجال المحتسب الأشداء الذين يجوبون الأسواق و يتبعون المحتسب فى جولته اليومية التى يتفقد فيها الأسواق و أسعار السلع ووزن الخبز ، و يوقع المحتسب عقابا بدنيا شديد الصرامة على المطففين فى الميزان أقله الضرب بالفلقة أو الجلوس على حمار بالمقلوب ، و لو اشتدت المخالفه ينادى على مساعده الذى يطلق عليه العريف و يصدر حكمه الفورى و كلمته النافذة فيستخرج العريف مقصا من جعبته و يقوم بقص قطعة صغيرة من أذن أو منخار التاجر الغشاش لتكون علامة دائمة تعلمه ليعرف الناس بغشه .

 لقد طويت هذه الصفحة من تاريخ المحروسة بين طيات الزمان و لم يتبقى من ذكرى محتسبين الأسواق سوى ألقابهم ، و لكن ماذا لو خرج متولى حسبة القاهرة من عباءة التاريخ اليوم و رأى المطففين وجشعهم والتجار و طمعهم و تغاليهم فى رفع الأسعار للحصول على أعلى مكاسب وزيادة ثرواتهم ، و إخفاءهم للسلع وتجاهلهم للأزمات ، و عدم مبالاتهم بمعاناة الناس و لا مراعاة قدراتهم ، ماذا لو رأى ذلك كله ، أتخيل ماكان سيفعله بهم ؟؟
شاركه على جوجل بلس

عن جريدة النداء المصرية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق