أد.السيد
فضل يكتب : صلاح الدين الأيوبى صورة أخرى قراءة
في رواية صلاح الدين ومكايد الحشاشين لجورجى زيدان
"وصلاح الدين النبيل القلب الشريف العواطف
، وجنوده العرب الأشداء ، ومعركة جبل حطين ، الذى نصب على قمته الصليب مثل علم ، ثم
نزع ، فلم تره أعين المسحيين ، ثم الصلح والاستسلام الذى فقد به الصليبيون مدينة أورشليم
إلى الأبد" : من مقدمة هنري رايدر هجرد لروايته التوأمان.
يميل مؤرخو الرواية
الحديثة إلى أن زيدان كان يرمى من رواياته التى تجاوزت العشرين إلى تعليم التاريخ فيذكر
الدكتور عبد المحسن طه بدر أن زيدان قصد بروايته أن تكون بعد تصفية العنصر الغرامى
منها مرجعاً تاريخياً ودرس الدكتور أحمد هيكل روايات زيدان فى كتابيه تطور الأدب الحديث
، والأدب القصصى والمسرحى تحت عنوان الرواية التعليمية . ويؤكد الدكتور محمد مندور
فى كتابه المسرح النثرى رضاه التام عن كتاب الرواية والمسرحية التاريخية الذين اختاروا
لأعمالهم مضامين من تاريخ العرب المسلمين ، علي نحو ما نعلم من سلسلة القصص التاريخية
التى كتبها جورجى زيدان ، واختار تلك المضامين من بين فترات البطولة العربية المنتصرة
، أو البطولة التى انهزمت ، وأراد زيدان أن يتخذ من تلك الهزائم وسيلة لاستثارة الهمم
وحشد العزائم . وعلى الجانب الآخر يذكر إبراهيم رمزى فى مقدمة روايته باب القمر ، وقد
أرادها بداية لسلسلة من الروايات التاريخية على طريقة زيدان أن الشيخ محمد عبده والشيخ
عبد العزيز جاويش دفعاه إلى تقديم هذه السلسلة لتكون أمام القراء قراءة أخرى للتاريخ
تختلف عن قراءة جورجى زيدان . والحق أن ما أثارته روايات زيدان من جدل حول قراءة صاحبها
للتاريخ كان أمراً محموداً فى كل الحالات فقد فتحت الروايات أبوابا من النقاش حول أحداث
تاريخية وشخصيات تاريخية أوشكت ألايكون لها وجود بعيداً عن حواشى المؤرخين ومراجعهم
. أضاف زيدان للتاريخ قراءا يتفقون معه وأخرين يعارضونه ، وأضاف الجدل اتفاقاً واختلافاً
بابا من مكتبة الأدب والتاريخ لا يمكن تجاوز تأثيره . ويمكننا هنا الإشارة فقط إلى
أن شوقى الشاعر الكبير حين فكر فى تقديم سلسلة من الروايات التاريخية كان متأثراً بوجه
من الوجوه بما بدأ زيدان يقدمه من روايات ، وقد ذكر نجيب محفوظ أنه حين خطط لكتابة
الرواية التاريخية كان أمله أن تصل إلى أربعين رواية تغطى تاريخ مصر فى صيغة تشبه ما
صنعه زيدان . وقد اخترت هنا أن أعرض لرواية زيدان صلاح الدين ومكايد الحشاشين حيث يجمع
فى الرواية جملة من الأفكار راودته حين عنَ له أن يقدم قراءة أخرى لشخصية تاريخية لها
وضعها في الشرق والغرب هى شخصية صلاح الدين ، والحق أنه لا
يمكن أن يقال إن
الرواية تدور حول شخصية محورية هى شخصية صلاح الدين الأيوبى ، رغم أن الكاتب منح روايته
عنواناً يوحى إلينا بذلك ، فقد أقام بناء روايته على مجموعة من الأحداث التاريخية المختارة
الموثقة ، وأخرى موضوعة أو متخيلة ، يؤكد خلقه الفنى لها ، ويحاول زيدان أن يجمع بين
البعدين كليهما عن طريق إحياء مجموعة من الشخصيات التاريخية ومجموعة من الشخصيات المتخيلة
أيضاً . والرواية من هذه الجهة تمثل نموذجاً من النماذج المبكرة للتوازن فى البنية
الروائية بين الفن والتاريخ .
كان جورجى زيدان
فى ذلك تلميذاً وفياً من بعض الوجوه " لسير والترسكوت: رائد هذا الاتجاه فى الأدب
الغربى ، والذى قدم مجموعة من الروايات التاريخية تتوازن فيها عناصر التاريخ مع الخيال
. ولم يكن التاريخ عند: سكوت ذلك الجزء الجاف الممل من الرواية ، والذى يتعجل القارئ
الفراغ منه ليخلص إلى الحكاية الإنسانية العاطفية ، لأنه غاية مقصودة لذاتها ، والصلة
وثيقة بين تطور الحدث التاريخى وتطور حكاية الحب والغرام ،لأن سكوت لم يكن يريد أن
يعلم التاريخ ، وإنما كان يريدأن يبعث الحياة الإنسانية الخالدة ، يعيش معها القارئ
فى صفحة من صفحات التاريخ . أما جورجى زيدان فقد كان يؤكد أنه يعلم التاريخ ، يقول
" فالعمدة فى روايتنا على التاريخ وإنما نأتى بحوادث الرواية تشويقاً للمطالعين
، فتبقى الحوادث التاريحية على حالها (1 .
وكان من عادة زيدان
أن يعمق الحس التاريخى لدى قارئه حين يجعل من رواياته التاريخية سلسلة تغطى تاريخ الإسلام
، وحين يجعل من كل رواية امتداداً لسابقتها ، وحين كان يقدم لكل رواية بمقدمة تاريخية
يربط فيها أحداثها بالرواية السابقة لها ، وحين يعتمد فى هذه المقدمة على مراجع تاريخية
يحرص على توثيقها وإثباتها فى الهوامش شأن المؤرخ المحقق .
اختار الكاتب كعادته
أحداث روايته من فترة من فترات الصراع والتحول من مذهب سياسى إلى مذهب آخر حيث انتقل
الحكم فيها من الفاطميين إلى الأيوبيين ، فى أواخر القرن السادس للهجرة وهو ما أثار
الكثير من الجدل حول مغزاه من هذا الاختيار. وقد وجد الكاتب الفرصة مواتية لكى يعرض
لنا طائفة من الفرق الباطنية هى الطائفة الإسماعيلية المعروفة بالحشاشين، وتمثل هذه
الطائفة نوعا من الفكر والسلوك ظهر فى الدولة الإسلامية ، متخذاً طابع السرية والعنف .
ولقد قيل الكثير
عن اختيار فترات الصراع موضوعاً لأحداث رواية تاريخية وتنتهى مناقشة الموضوع فى الغالب
إلى أن الفيصل ليس الاختيار فى ذاته وإنما هو فى الأساليب الفنية المستخدمة فى تقديم
هذا الاختيار ، وما يرمى إليه فى النهاية من قضايا ذات بال . وقد يزيد الأمر وضوحاً
أن الفترة التى اختارها الكاتب كانت هدفاً لأكثر من عمل أدبى فى الشرق والغرب ، ذلك
أن شخصية صلاح الدين قدّر أن يكون لها فى العالم الغربى صور ة متبانية و كبيرة استقرت
فى أعماق القارئ هناك ، من خلال مجموعة من المؤلفات التاريخية ، سواء قدمت تلك المؤلفات
فى فترات الصراع بين الغرب المسيحى والشرق الإسلامى ، أم تلك التى كتبت بعد ذلك .
وقد احتل صلاح الدين
مكانة فى عالم شخصيات الرواية التاريخية فى الأدب الغربى من خلال ما قدم له على وجه
الخصوص :والتر سكوت ، وريدر هجرد : إن الفترة التاريخية كانت واحدة عندما كتب سكوت
روايته : الطلسم
: TheTalismain وعندما
كتب هجرد رواية : الشقيقان: The Brethern وعندما كتب زيدان رواية صلاح الدين تناول الفترة ذاتها ،ولكنه احتفظ بزاوية
خاصة يرى فيها الأحداث حول بطله بمنظوره الخاص .
ولا نكاد نتقدم بضع
صفحات فى قراءة الرواية حتى نكون قد ألممنا بنوع من الصراع ، يحاول الكاتب أن يقدمه
،إننا فى الأيام التى تلفظ فيها الدولة الفاطمية آخر أنفاسها تحت سيطرة الأكراد وإرهابهم
، فهو صراع داخلى ، إذا استعرنا لغة السياسة الحديثة ،مقطوع الصلة أو يكاد بالعالم
الخارجى بصراعاته الكبرى التى تشكل معالم هذا العصر مما عنى بإبرازه الكاتب الغربى .
والحوار هو الأداة
الفنية الأولى التى يقدم بها الكاتب شخصياته – بل العمل الروائى كله – هذا الحوار يوحى
منذ البداية بأسلوب المواجهة بين أطراف الصراع من فاطميين وأكراد : إنه أسلوب المداجاة
: ونحن نستعير اللفظة من أحد عناوين الكاتب لفصول روايته . يقوم حوار فى أول الرواية
بين الخليفة الفاطمى المغلوب على أمره ونجم الدين أيوب والد صلاح الدين ، الذى خرج
الخليفة لاستقباله وهو أمير المؤمنين : ابن بنت رسول الله وظل الله على الأرض
" كما عبر الكاتب على لسان رجل من العامة ، بعد أن نقرأ هذا الحوار ندرك نوع العلاقة
التى تقوم بين أطراف الصراع برمتها : إنها علاقة تقوم على الخداع والمخاتلة ،يحاول
الخليفة أن يخدع صلاح الدين وحزبه ، ويمكر صلاح الدين وحزبه بالخليفة ، فإذا تواجها
لا نجد إلا حلو الحديث .
إن هذا الخيط الدقيق
الذى حاول الكاتب أن ينسج من خلاله معالم الصراع يبدو واضحاً فى هذا الموقف الذى يرسم
فيه الكاتب نوعين من الحديث : حديثاً صريحاً بسيطاً يمثل الخداع والمخاتلة والمداجاة
، وحديثاً آخر خفياً ، يؤكد الأطماع والخلاف ، يبتسم الخليفة لصلاح الدين ووالده ابتسامة
مقتضبة ويقول : أهلاً وسهلاً ، لقد نزلتم على الرحب والسعة ، وقد أمرت رئيس القصر أن
يعد لمقامكم منظرة اللؤلؤة ، وهى أجمل قصورنا بل هى أحد متنزهات الدنيا . فتأدب نجم
الدين فى مجلسه وأبدى الاحترام وأثنى على الخليفة ثناءً كبيراً ، وقال : إنُّ تنازل
مولانا أمير المؤمنين بالخروج للقاء والدى نعمة لا أنساها له ، ونحن حيثما كنا فإننا
ندعو له بطول البقاء . فحك الخليفة أنفه بسبابته وتناول قضيب الخليفة من على الوسادة
إلى جانبه ، وهو قصير مغشّى بالذهب ، وجعل يتلهى بالنظر إليه ثم سعل ، والتفت إلى نجم
الدين وقال : " كيف فارقت صديقنا الأتابك " فأجاب وهو يتلطف ويتجمل ، وقال
:" فارقته وهو فى خير ، وقد حملنى سلاماً كثيراً ومودة لمولانا العاضد حفظه الله
- وهو يدعو بطول بقائه ودوام سلامته " فقال الخليفة :" إنى مسرور من صداقته
وأرجو دوامها " قال نجم الدين :" إن ذلك شرف عظيم له ، وقد كلفنى أن أبلغ
المولى – أعزه الله أنه ورجاله فى خدمته لنصرته ، لنصرة الحق .
يتأدب نجم الدين
ويبدى الاحترام ويتلطف ويتجمل ، ويعتبر نفسه قد شرف بالمثول بين يدى الخليفة ، ولكنه
حين يعطيه ظهره نسمع منه رأياً آخر ، فهو يخاطب ابنه صلاح الدين فى عنف:" لابد
من إعلان الدعوة العباسية . هل هذا صعب عليك؟ "(3) .
وموقف الخليفة لا
يختلف ، فهو يرحب بصلاح الدين ووالده ، ويبتسم لهما ، ولا يجد وهو الخليفة غضاضة فى
أن يستقبل والد رجل من قادته .
يجلو لنا زيدان حقيقة
مشاعر طرفى الصراع حين ينفرد كل طرف بنفسه ، ليعد العدة للدس والتآمر . : يذهب الخليفة
لاستقبال نجم الدين أيوب ، وفى هذه اللحظة يستحضر الكاتب القارئ كعادته ؛ ليرى الدمع
يترقرق فى عينى الخليفة " ولو جسست قلبه لسمعت خفقانه الشديد من الأسف والغم ،
لاضطراره إلى الخروج فى هذا الموكب لتكريم رجل يخاف منه على حياته ، كما يخاف منه على
منصبه (4) . ولقد رأينا حرص الخليفة على مودة نجم الدين وصلاح الدين ، وهى مودة تجاوزتهما
إلى نور الدين فى الشام ولكن الخليفة حين ينفرد بأخته سيدة الملك يعبر أيضاً عن حقيقة
مشاعره " آه كيف أقوى على احتمالهم وقد سلبونى ما فى يدى من سيادة وثروة ؟ وأنا
مع ذلك لا استطيع إلا أن أجاملهم وألاطفهم وأرحب بهم (5) .
يعود الكاتب ليؤكد
هذا الأسلوب من أساليب الصراع الذى يقف فيه الطرفان وجهاً لوجه ، يتحدثان فى مودة ،
فإذا خلا كل منهما إلى نفسه أفصح عن حقيقة ما يدور فيها . على الطرف الآخر نرى صلاح
الدين مع أبيه حين يخلوان إلى أنفسهما يسخران من هذا الرجل ، أو" الخليفة المسكين
" كما يرددان . ويبدو أن صلاح الدين خطَّ الخطة التالية : أن يتريث ويتلطف حتى
يجد الفرصة المواتية ، لكى يصل إلى مآربه أو أطماعه ، كما يعبر الكاتب كثيراً . نفهم
ذلك حين نسمع حواره مع أبيه " لنترك هذا الخليفة الشاب يفرح بألقاب الخلفاء ومجاملاتهم
حتى نرى ما تأتى به الأقدار (6) .
لقد تواجه الطرفان
فى الحقيقة حين أصرا على اختيار الدسائس والمؤامرات وسيلة لبسط النفوذ وهذا هو موضوع
الرواية فى حقيقة الأمر ، أو ذلك هو الحس التاريخى الذى قدم به الكاتب عمله الروائى
وصاغ من خلال صورة مختلفة لصلاح الدين يدعمها بالوقائع التاريخية.
الأكراد قوم طامعون
فى الخلافة باحثون عن السلطة ، ينظرون قبل كل شئ إلى ولاية مصر ، وأمامهم خليفة ثقل
ظله على الناس بعد أن أرهقهم أجداده بالإرهاب والضرائب . يريد الكاتب أن يفسر طبيعة
علاقات تفرقها النظم والأطماع السياسية والنزعة المذهبية ، ويرجعها فى المقام الأول
إلى القوة وما تؤدى إليه من أطماع ذاتية .ولعل الكاتب قد أشارإلى ذلك صراحة حين أجرى
هذا الحديث على لسان نجم الدين أيوب يخاطب ابنه صلاح الدين الذى لم تعجم السياسة عوده
بعد فسأل عن الحق فكان رد أبيه: " إن الحق يابنى للقوة " .. تلك هى قاعدة
أصحاب السياسة ، وإلا لوجب علينا أن نخرج من هذا البلد ونتركه لأهله ؛ لأن صاحبه إنما
استنجد بالأتابك نور الدين لينصره على رجل من خاصته ، تمرد عليه فأنجده بعمك .. وأنت
معه .. وكان ينبغى لكما أن تخرجا من مصر بعد الفراغ من تلك المهمة ، وتسلما ما تستحقانه
من أجر ... فبقاؤك هنا سواء كان باسم نور الدين أو باسمك جشع ، ... وإنما تعده حقا
إذا كنت تستطيع تنفيذه ... فالحق هو القوة يابنئ ... تلك هى شريعة الفاتحين (7) .
ولقد كان حرص الكاتب
على أن ينتهى حوار بعض العوام فى الرواية إلى ما انتهى إليه نجم الدين أيوب:
" الحق للقوة " ولئن استقر نجم الدين على السعى نحو السلطة فإن العامة انتهوا
فى حوارهم إلى نوع من الإستسلام . قال عمر أحد هؤلاء العوام : " وما الذى يعنينا
من هؤلاء الحكام ، إنهم يستبدون على الاختصام فينا ، وما الذى يهمنى إن كان حاكمى كردياً
أو عربياً أو هندياً ، إنما يهمنى ألا يظلمنى أليس كذلك؟ (8) وبعد قليل وحين ير ى عمر
المصرى ما يحمله الخليفة وأعوانه من جواهر ونفائس ينقلب الإستسلام واليأس إلى نوع من
التذمر ، ولكنه تذمر ينتهى باستسلام أيضاً أمام القوة " يا حفيظ يا حفيظ أيكون
مثل هذه الجواهر عند هذا الرجل بلا فائدة ، والناس فى مملكته يتضوروة جوعا ، وهو يأخذ
أموالهم ظلما ؟ آه يا عم حسن قد وجعنى قلبى من هذا المنظر (9) .
بهذا الجو يهيئ الكاتب
صورة من صراع بين طرفين لا يخطر لهما أفراد الرعية على بال ، ولذلك فقد ذهب عمر وصديقه
حسن منذ سمعنا حوارهما فى الصفحات الأولى ولم يعودا ، وكأنهما قد حكما على الصراع فى
الرواية قبل أن ينتهى الكاتب من عرضه بأنه صراع على الحكم لا نظر فيه إلى رعية أو عقيدة
أو مذهب
.
و قد اعتاد زيدان
حين يقدم شخصية من الشخصيات أن يقدمها دفعة واحدة باسمها ومهنتها وأخلاقها و أوصافها
، ووجه يعكس هذه الأمور وماض يؤكدها . وبهذه الطريقة قدم لنا صلاح الدين . وهنا يبدى
زيدان ميلاً واضحاً إلى تقاليد الرواية التاريخية الغربية خاصة كما كتبها " سير
والتر سكوت " حين يقدمه من عينى بعض العامة فى حوار يتصدر الصفحات الأولى من الرواية
فحين يسير صلاح الدين فى موكبه إلى جوار الخليفة يقول العم حسن مخاطبا رفيقه عمر :
هذا هو يا صاحبى صلاح الدين الأيوبى الوزير ، وهذا الثوب الذى عليه هو خلعة السلطة
خلعها عليه هذا الخليفة نفسه منذ ثلاث سنوات... هذا هو صلاح الدين ، إن منظره يدعو
إلى الهيبة أكثر من منظر الخليفة ، انظر إلى هيئته وكيف أن الشجاعة ظاهرة فى وجهه ،
ولا يراه إنسان إلا احترمه وخاف منه... والحق يقال إن الأمور الآن فى يديه ، وهو الأمر
الناهى ، كما قلت لك ، انظر إلى الرجال المحيطين بموكبه
(10) .
إن الحوار هنا أيضاً
لا يقدم لنا صلاح الدين بقدر ما يحكى لنا أحداثاً ويرسم لنا صوراً للأمر الناهى ، فى
دولة اختلت الحياة السياسية بين أيدى حكامها الفاطميين .
ويمكن أن يقال إن
خيوط الأطماع والطموح هى الخيوط الأولى التى تشكل الملامح الأساسية فى شخصية صلاح الدين
وصورته فى الرواية وقد اختار الكاتب من المادة التاريخية ما يؤكد ذلك . وقد بدا ذلك
واضحاً منذ واجهنا فى أول الرواية وهو يحاول أن يقنع والده بأنه دبر أمر مصر ، ونظم
شئونها بسيفه ، فلا يصح أن يبقى "عبداً لأحد " حتى ولو كان نور الدين محمود
. وفى المرات القليلة التى يترك فيها الكاتب الحوار نواجه صلاح الدين تعتمل داخله مأربه
وأطماعه السياسية ، فهوحين يرى صورة على الجدار لشعراء الخليفة الآمر فى أيام مجده
ينثرون عليه المديح ، وينثر عليهم الذهب يدرك أبوه ما يجول بخاطره من طلب للسيادة والمجد
فتقر عينه
.
ويؤكد زيدان دوماً
أن صلاح الدين طالب سلطة ومجد يندفع إلى ذلك فى غير كثير من الحكمة والسداد ، وهو الخيط
الثانى الذى يشكل صورته فى الر واية . وهناك أكثر من شاهد على ذلك ، فقد دلت زيارة
نجم الدين لمصر على أن ابنه فى حاجة ملحة إلى حكمة الأب وسداد رأيه ، حتى لا يقع فى
أخطاء تؤدى بكل أطماعه وطموحاته . يدرك الأب أن ابنه قد تجاوز الحكمة والسداد ، يقول
له :" إنك تخاصم نور الدين على غنيمة لا تزال فى حوزة أصحابها ، ولا يحق التنازع
بينكما عليها إلا بعد إطراحها من قبضتهم . وهذا لا يكون إلا بنقل الدعوة من الفاطميين
إلى العباسيين ثم نرى بعد ذلك (11) .
ودليل آخر عند زيدان
يؤكد معالم الاهتزاز والطمع فى شخصية صلاح الدين الذى يخوض فى الرواية صراعاً غايته
السلطة والحكم ، وذلك حين ينصحه عيسى الهكارى وهو من معاونيه بأن يتزوج من سيدة الملك
، يزين له ذلك كمدخل للخلافة ذاتها " فاستحسن صلاح الدين رأيه ، واستمهله ليشاور
أباه فنهاه عن مشورته (12) . ويدرك صلاح الدين نفسه أنه قد تسرع حين يقول الكاتب معلقاً
" أما صلاح الدين فإنه بعد ذهاب الهكارى من عنده خلا بنفسه وراجع ما دار بينهما
فرأى أنه قد تسرع في الأمر (13) .
ويعود الكاتب إلى
صلاح الدين فيقدمه عجولاً متسرعاً فى موقف أكثر حساسية ، بعد أن يحكى لنا على طريقته
فى تسجيل الأحداث التاريخية ورصدها من الخارج أن نور الدين محمود قد ضاق بصلاح الدين
فأرسل يستدعيه ، وفى الحال يقدم لنا الكاتب حواراً طويلاً يبدى فيه اتباع صلاح الدين
استعدادهم للقتال " فبان البشر فى وجه صلا ح الدين " ولكن الأب وهو ذو حكمة
وسداد " انتهر من وافقه " ثم وجه حديثاً للابن العجول " يا يوسف أراك
تبغى أمراً عظيماً أنت أقصر باعاً من أن تناله.. والله لو أننى وخالك هذا وقع نظرنا
على السلطان نور الدين لن نمكث إلا أن نقتل بين يديه ، ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف
لفعلنا ، والرأى أن تكتب كتاباً مع الرسول تقول فيه... يرسل المولى رسولاً يضع فى رقبتى
منديلاً ويأخذنى إليه (14) . وفى هذا الموقف يعود الكاتب ليؤكد الرأى المعلن أمام الحضور
، والرأى الآخر الذى يشكل حقيقة مطامع الأب وابنه فى مصر ، ومن أجل ذلك حين يخلو الأب
بابنه نسمع نغمة أخرى يقول " وعيناه تتلألآن : والله لو أراد نور الدين قصبة من
قصب السكر بمصر لقاتلته عليها حتى أمنعه أو أقتل(15) .
وتزداد صورة صلاح
الدين التى يقدمها الكاتب فى الرواية وضوحاً لدى القارئ حين نرى الخليفة يضطر وهو يحتضر
إلى الاستعانة به ، إنه يعترف لاخته " لكنى لا أجد الآن من أثق فى قوله إنه فاعل
ما يقول سواه " ويواجه صلاح الدين " يا صديقى هذه أختى سيدة الملك التى بعثت
تخطبها .. وهؤلاء أبنائى وكبيرهم داوود هذا . إنى تارك أمرهم إليك ... وأشهد عليك الله
أن تأخذ بناصرهم ، فهل تعدنى إنك فاعل ما أقول ؟ " وأمام هذا الموقف الذى اختاره
الكاتب يجد صلاح الدين عدوه معتمداً على وفائه فيجيب فى كثير من التأثر والانفعال
" إن أهلك هؤلاء لن يصيبهم سوء ما دمت على قيد الحياة ، ولك عهد الله على بذلك
(16)
.
والقارئ فى هذا الموقف
يتعاطف مع طرفى الصراع كليهما ، ومع صلاح الدين خاصة وقد بدا مخلصاً للخليفة ولجلال
الموت الذى يتراءى فى عينيه حتى أن سيدة الملك نفسها تعاطفت معه ؛ لأن الكاتب يعرض
علينا مشاعرها ، وقد سرت عنها كلمات صلاح الدين رغم ما بها من حزن" حتى أوشكت
أن تبتسم " ، " وقد أحست من تلك الساعة أنها تحبه حب الإعجاب " ولكن
هذا التعاطف لا يلبث أن يزول بعد قليل حين نرى صلاح الدين وقد استولى على قصور الخليفة
الراحل وخدمه وجواريه ، ثم بايع الخليفة العباسى " حتى لا يكون على الأرض خليفتان " .
كان الكاتب معنياً
بالصراع الداخلى الذى يواجه فيه صلاح الدين الخليفة الفاطمى حتى ينتهى الأمر بموت الأخير
على هذه الصورة من الخداع المتبادل ، وهو إذا خرج بهذا الصراع إلى العالم الخارجى يختار
نور الدين محمود طرفاً آخر يتعامل معه صلاح الدين بنفس الطريقة من الخداع أو المداجاة
، لقد أرسل نور الدين إلى مصر مع عمه فى مهمة واضحة ، كان لابد لها أن تنتهى بالدعوة
للخليفة العباسى ، وفى رعاية نور الدين نفسه وتحت نفوذه ، ولكن صلاح الدين يراوغ فى
إتمام هذه المهمة ، ويُظهر الولاء لنور الدين ويضمر الشحناء والرغبة فى الاستقلال بمصر
. ولكى يستكمل الكاتب خطته بهذا الحس التاريخى لشخصية صلاح الدين يقيم حواراً طويلاً
بين رجلين من رجاله ، يحكى لنا الحوار ككل حوار فى الرواية احداثاً تاريخية .
وربما تأتى أهمية
هذا الحوار من أنه يقدم لنا رواية اعتمد فيها الكاتب على ابن الأثير ، كما كان حريصاً
على أن يخبرنا فى الهامش . وليس من همنا أن نبين صدق هذه الرواية أو كذبها فذلك لرجال
التاريخ ومقاييسهم التى يدركونها ، ولكنا نريد أن نؤكد اختيار الكاتب لها وتركه لسواها
، مما يتفق مع وجهة نظره العامة فى هذه الفترة من التاريخ ، ومع هذه الصورة التى يرسمها
لبطل الرواية صلاح الدين ، الذى واجهنا طامعاً فى السلطة " يتهم قراقوش فى الحوار
التالى ، وهو أحد الرجلين المشار إليهما الهكارى بأنه أطمع صلاح الدين فى مصر ، ولكن
الهكارى يجيب " ألا تراه أهلاً لها ؟ ما لنا ولذاك . إن نور الدين لما سمع بما
فعله صلاح الدين فى الكرك خرج من دمشق قاصداً حرب الأفرنج ، ليغتنم فرصة تضييق صلاح
الدين عليهم من جهة ، ويضيق عليهم هو من جهة أخرى فيذهب ملكهم ، وقد رأيت فى ذلك خطراً
على سلطاننا ؛ لأن نور الدين متى أذل الأفرنج ، وأخضعهم تفرغ للسلطان صلاح الدين وهو
وزيره ، والناس أطوع له مما إلى وزيره ....... فتذهب مطامع صلاح الدين فى مصر أدراج
الرياح ، والأفضل أن يبقى نور الدين مشغولاً عن صلاح الدين بمحاربة الأفرنج ، حتى يقضى
الله أمراً كان مفعولا " فقطع قراقوش كلامه قائلاً " لله درك من داهية ،
وأحسبك عرضت هذا الرأى على السلطان . قال الهكارى " عرضه على بعض الناس وأشار
عليه أن يرجع إلى مصر بحجة ينتحلها فرجع مولانا السلطان إلى مصر كما تعلم (17) .
فى هذا السياق لابد
أن نذكر مقابلة حرص الكاتب على الوفاء بها ورصدها ، فحين يصل القارئ إلى نور الدين
محمود فى الشام يجده فى المقابل أكثر وفاء من صلاح الدين ، الذى تنكر لمولاه ، وتخلف
عن إطاعة أوامره ، وخطط للاستقلال بمصر بعيداً عن نفوذه . فحين وشى بصلاح الدين ظهر
الوفاء وبعد النظر جلياً لدى نور الدين ؛ لأنه رد الوشاية بكلمات صادقة يقولها فى رجل
يخطط لنفسه بعيداً عن تبعيته " ما الذى أساءكم به صلاح الدين ؟ ألم ترسلوا لنا
شعر نسائكم تستغيثون بنا فأنفذنا إليكم عمه شريكوه ، وقد أنقذكم ؟ وهذا صلاح الدين
أخمد العصيان ، وأصلح البلاد وأبطل الضرائب . فكان ينبغى أن تعرفوا له فضله . ولكن
قوماً يبلغ بهم الذل حتى يستشفعوا بشعر نسائهم لا يُرجى منهم وفاء ... فكيف ترجو أن
أتوقع منكم وفاء ؟ وقد جئتنى الآن تريد الإيقاع بينى وبين نائبى . هب أنه أراد الاستقلال
بمصر فليأخذها هو ، فإن البيعة واحدة ولا ترجع لكم" (18) . هل أراد الكاتب أن
نقارن بين صلاح الدين ومولاه نور الدين حين رصد هذه المقابلة ؟ ذلك ما يبدو لكل قراءة
فاحصة للرواية
.
أما طائفة الإسماعيلية
فقد تحدث الكاتب عنها فى ثلاثة مواضع من الرواية ، على طريقته فى عرض الأحداث بعيداً
عن لحظات احتدامها ، من خلال حديث حوارى طويل فى الفصل التاسع بين الجليس والخليفة
العاضد ، حيث يدور الحديث حول أصل هذه الطائفة وانتشار أتباعها(19) . وفى الفصل الثالث
والعشرين حين يستكمل الحديث عن أصل الطائفة وانتشار أتباعها بإضافة على لسان نجم الدين
أيوب يخاطب ابنه صلاح الدين(20) . ثم في الفصول الأخيرة من الرواية حين انتقل عماد
الدين إلى مقر هذه الطائفة بالشام ، فكانت فرصة قدم فيها الكاتب صورة مفصلة للطائفة
وأسرارها ورجالها بعوالمهم الغريبة والمريبة (22).
كان زيدان فى الواقع
تلميذاً لوالتر سكوت الذى تعرض لرجال الدين وطوائفهم فى معظم رواياته ، لقد دأب سكوت
على أن يضمن كل رواية من رواياته حديثاً عن رجال الدين المتشددين المتاجرين بالدين
، وخاصة طائفة " فرسان المعبد " حيث وصف أكثرهم بسوء السمعة والقسوة وقلة
المروءة . بل يلاحظ القارئ أن جل أشرار سكوت من المحسوبين علي الدين ومتطرفيه ، ولقد
كان سكوت منصفاً حين فطن وهو يعرض لتاريخ أوربا إلى أن الدين فى هذه الفترة كان تجارة
ولم يكن عقيدة ، وهى قضية من أهم القضايا التى شغلته فى رواياته . كما تأثر زيدان بكاتب
إنجليزى آخر هو السير هنرى رايدر هجرد S.H.R. Hagrad فقد أثارت شخصية صلاح الدين هذا الكاتب فوضع روايته الشقيقان تلك الرواية
التى زاوج فيها بين تقديمه لشخصية صلاح الدين وطائفة الإسماعيلية كما فعل زيدان. يقول
هجرد فى مقدمة هذه الرواية :" إنها صورة ، تمثل الحرب الطويلة التى دارت بين الصليب
والهلال فوق سهول سوريا وصحاريها والفرسان المسيحيين ، ونساء النبلاء ، وما فعلوه من
المشاق فى انجلترا ، و الشرق ، وزعيم الحشاشين المرعب ، الذى تسميه الأفرنج "
شيخ الجبل " ومدينته المحصنة التى تسمى " المصيف " وصلاح الدين النبيل
القلب الشريف العواطف ، وجنوده العرب الأشداء ، ومعركة جبل حطين ، الذى نصب على قمته
الصليب مثل علم ، ثم نزع ، فلم تره أعين المسحيين ، ثم الصلح والاستسلام الذى فقد به
الصليبيون مدينة أورشليم إلى الأبد (21) .والخلاصة أن الكاتب وقع على صورة رجال الدين
وطوائفهم كتقليد من تقاليد الرواية التاريخية عند سكوت فحاول أن يقدم أمثالها من خلال
المادة التاريخية المتاحة كما وقع على صور ة أكثر تفصيلاً لهذه الطائفة عند "
هجرد " فحاول أن يعيد تقديمها بين طيات روايته ولكنه فى كل الحالات كان حريصاً
على صورة أخرى لصلاح الدين تباين ما توارثته المخيلة العربية ، استند فى بنائها على
ما أشار إليه من مصادر شرقية ليفتح الأبواب لجدل مثمر حول التاريخ ورجاله ما لهم وما
عليهم
.
الهوامش
1. جورجى زيدان رواية الحجاج بن يوسف المقدمة
2. الرواية طبعة دار الهلال ص 24 – 25 وقد
وجدت بعض العبارات المدونة فى المصادر التاريخية طريقها إلى الرواية فى هذا الحوار
، وهو حوار كعادة زيدان يأخذ طابع الحكاية الشعبية .
3. الرواية ص 35
4. الرواية ص 21
5. الرواية ص 37
6. الرواية ص 31
7. الرواية ص 34
8. الرواية ص 12
9. الرواية ص 16 . لم يكن زيدان يخفى رأيه
فى مسألة الخلافة ذاتها ، فقد عرض للموضوع بإفاضة فى كتابه تاريخ التمد ن الإسلامى
، وقد نشر الكتاب بعد عودته من الأستانة فى رحلة التقى فيها بعدد من أعضاء جمعية الاتحاد
والترقى ، وقد ترجمت مجلة إقدام التركية الكتاب ونشرته فى تركيا دعماً لمدنية الدولة
التركية ، وبذلك يكون زيدان من أوائل الدعاة إلى دولة مدنية فى تاريخ الفكر العربي
الحديث . للمزيد يراجع كتاب زيدان المذكور ، وما أثاره من نقاشات واعتراضات .
10. الرواية ص 213
11. الرواية ص35
12. الرواية ص109
13. الرواية ص 110
14. الرواية ص 168
15. الرواية ص 170
16. الرواية ص 199
17. الرواية 164 – 165
18. الرواية ص 259 – 260
19. الرواية ص 46 ، الفصل التاسع و عنوانه الحشاشون .
20. الرواية ص 118 الفصل الثالث والعشرون وعنوانه
الإسماعيلية
.
21. الرواية ص 299 الفصل التاسع والخمسون وعنوانه
: نعيم الحشاشين وفيه يرحل البطل المتخيل عماد الدين إلى حلب حيث مقر الطائفة هناك
و يسقى من كأس ويغيب عن الوعى ويفتح عينيه على جنة من أنهار وأشجار وحدائق وحورية كأنها
البدر فى ملابس شفافة . الرواية ص 299 . وانظر الفصل السابع والخمسين من الرواية وفيه
يعرض زيدان لشروط الانضمام إ لى الطائفة ، وهى لا تخرج عن شروط الانضمام لطائفة فرسان
المعبد فى روايات سكوت .
22. S.H.R.Haggrd
.The Brethern . The Preface P . A
وقد ترجمت الرواية
إلى العربية 1921 بعنوان يوسف صلاح الدين ترجمها م . ع ونشرت فى مطبعة الرحمانية بالقاهرة
فى العام نفسه
.
0 التعليقات:
إرسال تعليق