.

.

د. يسري عبد الغني يكتب : وداعًا سينما الشرق .. وداعًا أيها الزمن الجميل :

د. يسري عبد الغني يكتب : وداعًا سينما الشرق .. وداعًا أيها الزمن الجميل :
الناقد والكاتب دكتور يسري عبد الغني

بعد أن أنهينا الصلاة و زيارتنا لمقام السيدة زينب (رضي الله عنها ) في مسجدها المعروف باسمها ، حي السيدة زينب الذي أفخر بأنني ولدت ونشأت فيه ، هذا الحي العريق الذي خرج منه العديد من أهل العلم والفن والثقافة ، خرجنا من المسجد ونظرت أمامه كعادتي ، حيث سينما الشرق ، لأرى ماذا تعرض من أفلام هذا الأسبوع ، رأيت إفيشًا باهتًا غير واضح المعالم .
اقتربت من السينما أو التي كانت سينما ، وجدتها مغلقة ، في مدخلها أكوام من القمامة ، وقد احتلت مقاعد المقهى المجاور بقية المدخل ، أضف إلى ذلك أن بعض الباعة الجائلين لم ينسوا أن يأخذوا نصيبهم من احتلال المدخل ، وسألت ، قالوا لي : سوف تهدم وسيبنى محلها برجًا أو مولاً ضخمة .
سينما الشرق آخر سينما تم إغلاقها أو هدمها في حي السيدة زينب ، هذا الحي الذي كان مليئًا بالسينمات الشعبية ، سينما الحلمية الجديدة بالحبانية والتي أغلقت ومازالت مهجورة ، وسينما وهبي نسبة إلى الفنان الكبير / يوسف وهبي ، نفس الوضع ، وسينما إيزيس تم هدمها وأصبحت معرضًا لأحد مصانع الحلاوة الطحينية ، وسينما الهلال الصيفي ، أصبحت برجًا سكنيًا رديئًا ، وسينما الأهلي أصبحت برجًا سكنيًا يتبع الشرطة ، وسينما ستار بالاظوغلي تحولت إلى عمارة سكنية ضخمة ...
ولك أن تتخيل أن هذه السينمات الشعبية لم تكن تبعد عن بعضها عشرات الأمتار ، منها عرفنا معنى السينما ، وشاهدنا روائع الأفلام العربية والأجنبية ، عرفنا صوفيا لورين ، وبرجيت باردو ، ومارلين مارلو ، وجينا لولو ، وإستر وليم ، وجيمس دين ، ودوجلس ، وبرت لانكستر ، والعشرات غيرهم ... أضف إلى ذلك نجومنا العظام من مختلف العصور ..
تصوير: المحامية -القاصة- نهى يسرى

وأذكر إنني كنت في سينما وهبي أشاهد فيلمًا للفنان الراحل / فريد شوقي (وحش الشاشة ) ، وأتذكر أن اسمه (بطل للنهاية) ، وكان معه محمود المليجي (شرير الشاشة) و الفنانة الجميلة / ليلى طاهر ، ونخبة من النجوم ، كنا نصفق لفريد وشجاعته ونحزن لأي ضرر قد يقع به في الفيلم ، كنا نشاهد الفيلم من الدرجة الثالثة (الترسو) ، وبمجرد أن انتهى الفيلم النهاية السعيدة بانتصار الخير على الشر ، أضيئت الأنوار ، لنجد فريد شوقي ملك الترسو بيننا بالفعل ، سارعنا إليه لتحيته ، فبادلنا التحية في تواضع ورقي أخلاق ، ووزع علينا صوره الممهورة بإمضائه .
هذه السينمات كانت في شهر رمضان المعظم تتحول إلى مسارح للمنوعات ، موسيقى وطرب وغناء ومنولوجات وموشحات دينية ، وعزف منفرد ، من فوق هذه المسارح عرفنا معظم أهل الفن والطرب والإبداع ، ورأينا العديد من البرامج وشاركنا فيها ، مثل ساعة لقلبك و جرب حظك ... كما كانت تقام في هذه السينمات العديد من المعارض الفنية ، و الندوات الثقافية والأدبية التي كان يشارك فيها كبار الكتاب وأهل الفكر ، ومعارض الكتب ، أضف إلى ذلك باعة الكتب القديمة الذين كانوا يفرشون كتبهم أمام كل سينما بأسعار في متناول يد الجميع .
كنا ندخل هذه السينمات بقرش ونصف أو قرشين ، كانت تقدم فنًا محترمًا راقيًا ، يعلمك السمو بالمشاعر والأخلاق الراقية والتحضر ، فنًا لا يعرف العري أو الفحش أو إثارة الغرائز أو السوقية والابتذال أو العنف و التوحش .
هذه السينمات تعرض الفيلم بما يسمى العرض الثاني أي بعد أن تعرضه السينمات الكبرى في وسط البلد بالتحديد ، في كل حفلة تعرض ثلاث أفلام ، أحدهما من الأفلام العربية ، والفيلمان الآخران أجنبيان في بروجرام واحد ، ما عدا سينما وهبي التي كانت لا تعرض إلا الأفلام العربية ، فيلم قديم وفيلم جديد .
قبل عرض الأفلام كانت هذه السينمات تعرض لنا الجريدة المصورة ، التي تستعرض لنا جميع أحداث الأسبوع سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ورياضية ، مع بعض ما تيسر من الأغاني الجميلة والموسيقى الشجية الرائعة ، وبعض هذه السينمات كانت تقدم أفلام الكرتون ، ومنها عرفنا توم وجيري وميكي ماوس ...
كل هذا كان قبل أن يكون كل بيت من بيوتنا فيه تليفزيون أو شاشات كبيرة تجلب العمى والصداع ، والقنوات الفضائية المتخلفة التي جلبت لنا عادات غريبة علينا ، أضف إلى ذلك ما جلبته لنا من اكتئاب وحزن ووجع قلب ، وبرامج التوك شو التي هرب أصحابها من المصحات العقلية ...
وبالطبع كان حالنا المادي لا يسمح بالذهاب إلى السينمات الكبرى في وسط البلد ، مثل : مترو ، ورمسيس ، و ريفولي ، وديانا ، و ميامي .... إلخ .. رغم أن سعر التذكرة كان لا يتعدى العشرة قروش ...
والآن بفضل الرأسمالية المتوحشة المتخلفة ، والظلامية التي تحاصر عقولنا ، وبفضل أهل المسئولية عن ثقافتنا ، تم إغلاق وهدم هذه السينمات الشعبية التي كانت تقدم لكافة سكان الأحياء الشعبية خدمات ثقافية راقية وبالذات الشباب الذي خاصم الثقافة والفن الجاد في زمننا الرديء هذا ، خدمات يعجز عن تقديمها من يصدعون رؤوسنا صباح مساء بالعمل الثقافي والاستراتيجيات والفاعليات الثقافية ...
كان من الممكن بدلاً من هدمها وغلقها تحويلها إلى مراكز ثقافية ترقي الشباب وتحضره وتعلمه ، فحين يتلقى برنامجًا ثقافيًا في مكان قديم يعرفه كل أهل الحي ، سيكون لذلك الوقع الطيب على نفسه ...
وداعًا سينما الشرق ، آخر سينما شعبية في حي السيدة زينب العريق ... وداعًا أيها الزمن الجميل ...
شاركه على جوجل بلس

عن جريدة النداء المصرية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق