الشاعر سمير درويش المثقف العضوي المغموس في هموم الوطن من منبت شعره حتى إخمص قدمه، وصاحب الدواوين الشعرية التي بلغت خمسة عشرة، وأحد أبرز أبناء جيل الثمانينيات ولعله وبتنوع نتاجه – مشروعه - الشعري يعد جيلا وحده، وسط هذه الكثرة من الشعراء الموجودين على الساحة الثقافية المصرية بل والعربية أيضا فما من أحد من أبناء هذا الجيل لديه هذا النتاج – كما - ولا هذا التنوع – كيفا- أيضا.
وإذا ما كان الإبداع ظاهرة سلوكية ولا يمكن فهم الشعر إلا بمعرفة العلاقة المعينة بين الشاعر ومجتمعه، ولهذا اعتبرت العبقرية لدى الشاعر قرينة علاقته بالمجتمع وها هو دور "النحن" في تحقق العبقرية، فحركة الإبداع لا تتم إلا بتحقق النحن. فالشاعر والمجتمع وحدة دينامية بكل ما لهذا التعبير من معنى. وعليه فعلاقة الشعر والشاعر وحياة المجتمع موضع اهتمام العلماء والمفكرين منذ أفلاطون وحتى الآن وما أحرى أن يهتم الشعراء بقضايا المجتمع وأن ينهض الشعراء بمسؤولياتهم وتطوير أدواتهم ولا يكتفوا فقط بالتمرد على القافية وبحور الشعر وقيود الصنعة .
الشاعر سمير درويش |
و"مرايا نيويورك" لـ سمير درويش يضم واحدًا وثلاثين قصيدة، تعكس نمط الحياة وملامح البشر والشوارع والحكايات كما تستدعى عوالم الشاعر الخاصة التى يحملها معه أينما ذهب وتشكل ملامح ثقافته العامة وجذورها وكيفية تشكلها. وخيال الشاعر هنا في "مرايا نيويورك" يؤكد مفهوم الخيال لدى جاك لاكان لوصف الميل المتمرد للحافز وفقاً لهدفه. فالوظائف التى يحكمها الخيال هى أكثر الوظائف عرضة للتنقل من هدف إلى آخر وخير مثال لتلك الوظائف هى الجنسية البشرية. فلاكان يرى "أنه فى عالم الحيوان، فإن الدائرة الكلية للسلوك الجنسي يتم السيطرة عليها بواسطة الخيال. فالسلوك الحسى هو أعظم الاحتمالات لحدوث الإزاحة، حتى بالنسبة للحيوان. فالطاقة الكامنة من أجل الإزاحة تتمركز فى قلب وظيفة الخيال فى البشر, وهى فى الحقيقة جزء من الـتعريف الدقيق "للخيال": فى السلوك الجنسى لدى الإنسان يلعب الخيال دوراً أساسياً وكذلك تحدث الإزاحة. وحينئذ نقول أن هذا السلوك يمكن أن نطلق عليه أنه خيالى عندما يكون اتجاهه نحو صورة ما, وقيمته كصورة بالنسبة لفرد آخر تجعل من الممكن إزاحته خارج دائرة إشباع الحاجات الطبيعية". والشاعر هنا وقد غير هدفه الجنسي وأزاحه فعليا إلى مجرد صورة الكترونية يرسلها، أو تعليق عليها يضعه عبر الهاتف يقول:
لعلنِّي محظوظٌ لأنني أقرأ الصورَ بمهارة
الناقد الدكتور خالد عبد الغني |
وأقولُ للجميلينَ إنهُمْ جميلون
في عيونِّهِّمْ
ولأنني، لهذا، أختارُ انعزالي بعنايةٍ
حتى أن الشرفتينِّ تتسخُ أرضيتُهُمَا دائمًا
دونَ أن ألحظَ هذا بالفعلْ.
لعلنِّي محظوظٌ لأن امرأة ما في العالمِّ
تنتظرُ وردةً إلكترونيةً في بريدِّهَا
كل صباحٍ
فأقولُ إنني أحبُّهَا
كما لم يحب أحدٌ أحدًا
فتبدُو فرحانةً أكثرَ مما تحتملُ ذاكرتي!
وفي "مرايا نيويورك" أيضا يتجلى بوضوح تماهي الذات الشاعرة مع قضايا المجتمع في لغة شعرية هامسة حينا وزاعقة حينا آخر فيقول :
لعلنِّي محظوظٌ لأنني سأموتُ مبكرا ميتةَ آبائي
حينَ يتجلطُ الدمُ في عروقي
أو يتفجرُ خارجًا من شعيرات دماغي
ولأنني، مثلُهُمْ،
لن أصيرَ محايدًا
أتابعُ الأحداثَ حولي
كأنهَا لا تخصُّنِّي أنا بالذاتْ
وتستمر الذات الشاعرة في عرض سلبيات مجتمعها في محاولة لدق ناقوس الخطر والتحذير من مغبة الاستمرار في تلك العشوائية البغيضة التي تجعل من ساكنيها أناس مهمشين ضعيفي الولاء والانتماء، فيقول سمير درويش:
المطربونَ العاطفيونَ ليسُوا مسئولينَ
عن الاختناقاتِّ المروريةِّ،
واشغالاتِّ الأرصفةِّ،
واللوحاتِّ الإعلانيةِّ المضيئةِّ في الليلِّ
على واجهاتِّ بيوتٍ عشوائيةٍ،
تَنبتُ شيطانيًّا في المدنِّ
التي تحتلُّهَا أعمدةُ الإنارةِّ المطفأةْ!
ثم يوجه سمير درويش سهامه نحو الطبقية ومجتمع الرأسمالية وسلوكياته البغيضة المملوءة بنرجسية غشوم لا ترى الآخر ولا تهتم بما يعانيه في واقعه اليومي المرير فنراه يقول:
الصرخاتُ التي تقطعُ المسافاتِّ
بيني والأجسادِّ الممشوقةِّ،
التي تقتحمُني، تلكَ،
ليستْ سوى صورةٍ مصغرةٍ من صرخاتِّ المخمورينَ،
في الحاناتِّ الساحليةِّ،
حين يغني مطربٌ عاطفيٌّ، مثلي،
قصيدةً مملوءةً بالغنجِّ. هناكَ:
لا نتذكرُ العشوائياتِّ، والأعمدةَ المطفأةَ،
واشغالاتِّ الأرصفةِّ، والتكدُّسَ المروري،
في مرايا نيويورك عبر الشاعر بتمرده ومن خلال قاموسه الشعري في لغة سهلة يسيرة وصور لا تخلو من مباشرة في كثير من الأحيان عن هموم الذات الشاعرة في علاقتها بهموم المجتمع المحلي والعالمي أيضا.
وبعد ،، فهذه قراءة أولى أحسبها لا تكفي ولا تعطى العمل ولا الشاعر حقه ولذلك فلنا عودة أكثر تفصيلا وإيضاحا لجنبات تتعلق بالمرأة والجسد الممزق والنرجسية والاغتراب كملامح أخرى في هذا الديوان المشحون بالدلالات الرمزية .
0 التعليقات:
إرسال تعليق