.

.

د. هداية مرزق تكتب: النص الشعري وسلطة الذاكرة قراءة في قصيدة أغنية لعنترة لـ حسني عبد الحميد


بقلم : د. هداية مرزق جامعة سطيف2 – الجزائر

ان القارئ للقصيدة العربية المعاصرة يلفت انتباهه استدعاء النص الشعري للذاكرة باشكالها المختلفة، لتشكل في كثير من الاحيان بؤرة النص والمهيمن في مقابل بناء واعادة بناء الحاضر وفق رؤية استذكرارية حينا واستشرافية حينا اخر، ليبدو الماضي مسيطرا على مجريات الحاضر فارضا سلطته عليه، وكأن الحاضر جزء من الماضي فقط، او مفارق له بناء على معطيات سوسيولوجية معينه…واذا كانت ذاكرة المبدع تستدعي احداثا او شخصيات من التاريخ فلان الظروف تفرض على الانسان واقعا لايستطيع ان يتأقلم معه، بعيدا عن الواقع الزماني والمكاني المفترض؛ فيلجأ الشاعر الى الذاكرة عله يجد بديلا او معادلا موضوعيا لواقع افضل، او مماثلا يجعله يرضى بما هو عليه… فيمتص الشاعر النص لينتج نصا جديدا “بفضل الاحالة والامتصاص ومن ثم التحويل الذي يمارسه على النص الجديد” ..وبما ان النص عند لوتمان ترجمة لواقع ، او تدوين لتجربة بوساطة اللغة ، يلجأ الشاعر حسني عبد الحميد في قصيدته اغنية لعنترة الى توظيف النص القديم من خلال استلهام الموروث الادبي الذي نجده في عنوان النص/القصيدة ممثلا باسم عنترة، في جملة الاستهلال/مطلع القصيدة/ ولقد ذكرتك الذي يؤكد انتماء العبارة الى الاسم المستدعى في العنوان….
ان قصيدة الشاعر حسني عبد الحميد ( اغنية لعنترة)لا تخرج عن هذا الاطار، فالذاكرة ماثلة في اول عتبة من عتبات النص /العنوان في احالته على شخصية ادبية/تاريخية/وشعبية شخصية عنترة ، وسواء أكانت هذه الشخصية عنترة العبسي الذي ثار وتمرد وناضل من اجل هويته، او عنترة الشخصية الشعبية التي تحكى عنها الحكايا حول شجاعته، او عنترة الشخصية الادبية/الشاعر الجاهلي؛ فأن الشاعر قد استطاع ان يفتح افاق النص الشعري على الموروث/الماضي منطلقا منه ليحل في شخصية عنترة معبر من خلالها عن الحاضر واقع الامة العربية بصفة عامة، ووطنه مصر بصفة خاصة، متكأ على ظاهرة التكرار وما لها من وقع على نفس القارئ… والتي يرى فيها رولان بارت مولدا للمتعة .. وكثيرا ما يلجأ الشعراء لتوظيف هذه الظاهرة الاسلوبية فلا تكاد تخلو قصيدة معاصرة من التكرار على مستوى عباراتها او الفاظها او حتى بعض حروفها الاكثر ايقاعا وتأثيرا على حركية النص.. وبما ان التكرار ظاهرة فنية تضفي على النص بعدا جماليا ودلاليا خاصا فان الشاعر يوظف وحدة هي جزء من بيت لعنترة متمثلة في بداية البيت( ولقد ذكرتك) مع تغيير على بقية الشطر يخدم الفكرة المعبر عنها، ما يجعل هذه العبارة المكررة واصلا بين افكار النص، ومؤكدا لمقصديته ووظيفته التي جعلت من هذه العبارة بؤرة وجوهرا..واذا كان تكرار العبارة يوحي للقارئ بانها العبارة الاولى نفسها، الا ان ما يرتبط بها بعد ذلك يخلق المفارقة وان لم تكن المخالفة، لان كل عبارة تعالقت مع عبارة ( ولقد ذكرتك)تؤكد موقف الشاعر وعزفه على اوتار الالم التي تمثلها (الجراح نوازف، والهموم عواصف)، و( ضائعا ومشردا، خائفا ومهددا)، ( في اغترابي)، و ( الحياة تضيق بي، والرفاق تخون ، في غيابة جبهم)، (والحياة تذيقني شظف الحياة) وغيرها من الالفاظ والعبارات المرافقة للعبارة المكررة، والمنتجة لنص اخر بعيدا عن النص المستدعى للشاعر عنترة :
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لانها… لمعت كبارق ثغرك المتبسم
لتتحول الجملة المكررة الى لازمة تتردد على مستوى النص كله، رابطة بين اوصاله، محيلة على الاجواء الحزينة والاحاسيس الرافلة في بحر العذاب النفسي، تكرارا قصد الشاعر من خلاله اختزال احاسيسه نحو واقع مأساوي يطغى عليه الشعور بالغربة والاغتراب، ليتحول الى حالة وجودية بما يحمله من اجواء الضياع والموت المعبأ في عبوات الالفاظ من مثل قوله:
فإذا قتلت وسوف أقتل
هل يعيش بأرضنا غير اللصوص؟!
وهل يغني للقبيلة غير مأجور الحداء ؟!
فلسوف تذكرني القبيلة أنني الولد الذي
صاغ القصائد للهوى والكبرياء
فأنا وريث الأرض والتاريخ والشعر المقاوم والرثاء
فلتذكريني في المساء وفي الصباح
ولترسمي وجهي النحيل على خدود البنت شارات الكفاح
ولتطعميني للصقور وللنسور وللجوارح
ماكان جسمي خائنا ليذوقه دود القبور
ولتلقمي عيني للسفن البعيدة عن بلادي
للرجال النازحين
المبعدين المتعبين السيئين الطيبين
المثخنين من الجراح
ارق نفسي والم يصاحب الفاظ القصيدة وعبارتها لتتحول حقيقة الى اغنية للالم والضياع والموت المؤكد (فمن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الاسباب والموت واحد) فيقول : فإذا قتلت وسوف أقتل في البداية اذا قتلت، لكنه ونظرا للواقع الذي يعيشه ويعايشه يستدرك (وسوف اقتل) مؤكدا على اقتراب الحدث،واسبابه(هل يعيش بارضنا غير اللصوص) ليعود الى استدعاء النص/والشخصية /والحالة في قوله فلسوف تذكرني القبيلة انني الولد ….الخ والذي يذكرنا ببيت عنترة :
سيذكرني قومي اذا ما جد جدهم …..وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
وهو ما يشير الى حلول أنا الشاعر في أنا عنترة ونسخ احاسيسه وما يجعلنا نقول بان هذه القصيدة قد استفادت من ظاهرة التكرار ، والتي تدعمها استراتيجية التناص مساهمة في تمطيط النص ، محققة انسجامه ايقاعيا ودلاليا ، مؤكدة على وقع الازمة في نفس الشاعر والتي قادته الى التحاف كل العبارات الدالة على الالم ، لتكشف في الوقت ذاته عن المعنى العام والمتمركز في الاحساس بالغربة والضياع والعجز والضيق واللاجدوى وغيرها من الاحاسيس التي يفجرها واقع الازمة في الوطن العربي

شاركه على جوجل بلس

عن جريدة النداء المصرية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق