![]() |
الشاعر السوري عيسى شيخ حسن |
"عرفت نجيب محفوظ يافعاً تستوقفني عناوين روايات خان الخليلي، خمارة القط الأسود، الشيطان يعظ، اللص والكلاب..الخ فوق أغلفة مزينة برسوم تماثل ملصقات الأفلام، وطبعات من الورق الفقير الأصفر، تعمد مكتبة مدينتنا الصغيرة إلى عرضها بأكثر من طريقة لعلّ مراهقين مثلنا يقبلون على شرائها مضحين بمصروف الجيب الزهيد، وكان علينا أن ننتظر مواسم الصيف لعلنا نستطيع شراء رواية أو روايتين. وكان علينا أيضاً أن ننتظر إلى أن نصل إلى الثانوية العامة لنحفظ مقتطعات من الثلاثية وزقاق المدق كي ننجح في آخر العام.
وفي الوقت الذي كان فيه أحمد عاكف ورؤوف علوان وسيد عبد الجواد يثرثرون فوق وسائدنا متبرمين ضجرين قاطعين أشواطاً طويلة ملء صفحات تتقلب بين أصابع متلهفة يهمها أن تطمئن على مصائر أشخاص معجونين بماء الواقع، في ذات الوقت كانت فلسفة نجيب محفوظ تنحفر في أذهاننا ، فلسفة الحياة الواقعية التي تنحاز إلى شروطه القاسية، ولا تنتصر لرغباتنا الفظة في أن ننقذ ابطالنا من مصائرهم الصعبة، إلى الحدّ الذي تتهم فيه الكاتب بضرب من العدمية تجاه أبطاله الذين يقضون أمامه دون أن يمدّ يديه إليهم. ذلك أن محفوظاً " الرائي" يدرك لعبة الواقع الماكرة فيكتفي بحمل الكاميرا ويصور من بعيد، من زوايا مختلفة تحاول عبثاً أن تبعدنا عن أبطالنا الذي يختنقون بين طيات الورق الأصفر الفقير ، بالرغم من خدعة الأغلفة الملونة بملصقات الأفلام.
كان عليّ أن أعاتب محفوظاً قبل أن يرحل و أنا أشارك سعيد مهران نقمته الحادة على ضياع الثورة التي أكلت أبناءها، كان عليّ أن أشارك أولاد حارته البحث عن المطلق في العدل، وأشارك حرافيشه محنة تقلب الأمر بين تيارات عدة، تنتفض في البدء ثائرة على الظلم الذي سرعان ما يعود، وكأنه لا نهاية لهذا الشقاء الإنساني الطويل. وكان علي أن أعيش معه في أحلام فترة النقاهة، وإن كنت أعرف أن محفوظاً ـ من دون تحفظ ـ هدية مصر والعرب إلى العالم في القرن العشرين عموماً، و أن " جائزة نوبل" وإن جاءته على طبق السياسة المريب، فإنها استعادت هيبتها في ثمانينيات القرن الماضي بدعوتها روائياً مثل نجيب محفوظ، وشاعراً مثل المكسيكي أوكتافيو باث إلى قائمتها، بعد أن فقدت بهاءها و هي تتنقل بفعل السياسة من أديب مغمور إلى أديب مغمور.
كان عليّ أن أطوف خان الخليلي في أمسية قاهرية عذبة، بين دكاكين المشغولات الشرقية التي صممت على عجل من أجل السياح الباحثين عن سحر الشرق، وبعض لوحات الفن التشكيلي المغفلة من أسماء الرسامين، وبين مقهى الفيشاوي الذي يأتي إليه الرجل ليقضي بعض الوقت هناك. كان عليّ أن أعود إلى أعماله الأخيرة لأرى استبصاره بالنهاية ـ كما يؤكد ذلك صديقي د. خالد محمد عبد الغني- . كان عليّ أن أردد بأسى: " كم نحن بحاجة إلى روايةٍ عن عرب ما بعد 11/9 يكتبها نجيب محفوظ "
0 التعليقات:
إرسال تعليق