لم يكن "شكسبير"(ت:1616م) ضحلاً ولا مغرضاً ولا طامعاً فى استضافة برنامج فضائى عندما كتب خطبة"بروتوس" والتى ألقاها على مسامع الدهماء فى باحة قصر صديقه "يوليوس قيصر" الإمبراطور الرومانى، والمقتول لتوه على يد أعضاء مجلس الشيوخ، حتى الصديق المخلص لم يتمكن من الهروب من الاشتراك معهم فى جريمتهم، ولكنه خرج على الشعب يحمل جثمان صديقه واستطاع أن يحول الجسد المسجى من طاغية إلى مظلوم، ويعلن الدهماء ثورتهم، لقد قدم "شكسبير" نبوءة للمستقبل حيث تحل وسائل الإعلام ذاتها محل الحقيقة، وتصبح العبرة ليست بمن يقول الحقيقة ولكن العبرة بمن يقول اى شىء قبل الآخر، ومن هنا كانت السوابق الصحفية، والإعلامية، لا لأنها لمن سبق، ولكن لان قائليها أصبحوا بها من أصحاب سوابق تزيف الواقع، وإعلان حياد وهمى.
فتنة المنيا؟!
لا شك أن"شكسبير" كانت نظرته محدودة فى تناوله لخطبة"بروتوس" فقد استخدم قدراً معقولاً من الموضوعية فى طرح"بروتوس" للتلاعب بعقول الدهماء، فهو ذكر حب "القيصر" لشعبه، والضياع التى كان سيتركها لهم، ولم يمتد عقل المبدع "شكسبير" إلى أن يضمن خطبة "بروتوس" اى تضمين دينى، مثل الذى تفتق عنه المتلاعبون بالعقل الجمعى فى الصعيد، فلم يقل"بروتوس" مثلاً:"وحدوووه"! أو"أن القتلة هؤلاء أعداء الله لأنهم قتلوا سيزر حبيب الله" لقد كان"شكسبير" قاصر التفكير فى هذه النقطة، بينما فى المنيا يتم ربط مجرد غياب زوجة رجل دين مسيحى عن بيتها أنها أسلمت ، ثم نكتشف فيما بعد أن ابن خالتها اشهر إسلامه، وإحدى قريبتها، وزوجة رجل دين أيضا أسلمت، فكأن هذه الوقفات الاحتجاجية هى بمثابة خطاب"بروتوس" بأثر رجعى، وعندما عادت استقبل زوجها التهانى! ثم بعد ذلك ركبت تاكسى وأخذت ملابسها وغادرت البيت مرة أخرى،هل يفترض أن يقف الإخوة الأقباط وقفة احتجاجية مرة أخرى؟ بمعنى كل ما زوجة رجل دين مسيحى تستقل تاكسى يحتج الإخوة الأقباط ويعلنوا أن مصر على أبواب فتنة طائفية؟
إن تزيف الواقع شىء بغيض عندما يتعلق بأمن الوطن، وثوابته، كأن يتمسك محافظ المنيا بتنفيذ ما اتفق عليه مع مطران مغاغة، فيخرج علينا المطران فى أجهزة الإعلام مع العاشرة مساء يحتج على "منى الشاذلى" من أنها لم تصور معه، وصورت مع المحافظ، ولكنها لم تستوعب احتجاجه، أو مخادعته لها، فبدى الحوار وكأنها تؤيد المطران فيما يحتج به من ظلم المحافظ، وتدعى أنها محايدة، وهذا لم يحدث، فرجل الدولة وهو المحافظ ينفذ القانون ، وان حدث خطا من جانبه فالقضاء الادارى هو المختص بهذه الطعون، لاستقرار الحياة الإدارية، أما أن تعلق المطرانية المشكلة لحين عودة "البابا شنودة"، فهذا هو التسلط بعينه، وإذا كان الأمر كذلك، لماذا تمت إثارة المشكلة والبابا خارج مصر إذا كان هو من يملك حلها؟
حتمية الزيف؟!
الكاتب عمرو علي بركات |
لا اقصد أن أقول انه يجب أن تكون رسالة الإعلام هى قول الحقيقة، لا فهذا يستحيل تحققه، إنما الذى اقصده انه إذا كان"مارشال ماكلوهان"(1911ـ 1980م) فيلسوف الاتصالات الكندى قد قال معظماً من أهمية الوسيلة:"أن الرسالة هى الوسيلة" بحيث احل الوسيلة الإعلامية محل الرسالة الإعلامية ومحتواها، فانه لم يعاصر زخم الوسائل إلى الحد الذى تلاشت معه الرسائل نهائياً، وباتت الوسيلة هى الحقيقة ذاتها، فما يقال عبر وسائل الإعلام لا يعد طرحاً لحقيقة منفصلة وإنما بات هو عين الحقيقة، والتى تتلاشى مع انتهاء إرسال الوسيلة فهى وسائط تبدأ وتنتهى فى حدود وجودها ولذا لا نجد قيم تنموا، ولا مبادئ تسموا، فالمعروض عبر وسائل الإعلام يلزم فاعله، وهو من يبثه، ولا يتعدى فعله مفعول به آخر وهو المتلقى، تلك هى أزمة وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية فى المستقبل، أنها أجدبت الأرض فأين لها أن تزرع لتطرح؟ لقد صادرت وسائل الإعلام على أنفسها، من كثرة تزييف الواقع، حتى صدقت هى نفسها الزيف الذى بثته على انه الواقع.
إننا نحتاج إلى نقد أكثر لوسائلنا الإعلامية بمختلف أنواعها وان يوجد مجموعة من المثقفين الذين لا هم لهم إلا كشف الزيف الاعلامى، وتضامنهم سوياً من اجل وعى المواطن الذى خرج عليه يوماً"هيكل" بخطاب تنحى "عبد الناصر"، وجلس فى شرفة منزله على النيل ينتظر الجماهير وهم يقفون أول وقفة احتجاجية نتيجة الزيف الاعلامى فى تاريخ مصر الحديث، كما يعد"هيكل" النسخة المصرية ل"بروتوس"، الذى استطاع أن يجعل الشعب يهتف ببقاء المستبد المهزوم فى الحكم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق