.

.

د.يسري عبدالغني يكتب : رجل يحمل تراث أمة العم " سعدان "



لست أنسى ما حييت بناءً عجوزًا من أهل حي بركة الفيل بالسيدة زينب ، ذلك الحي الذي عشت ونشأت فيه ، كان أميًا بسيطًا ، ولكنه كان مرآة صافية تنعكس عليها حكمة الأجيال و الحكماء ..
كان قاموسًا في الفلسفة ، رغم أنه لم يتلق من العلم شيئًا إلا ما علمه الزمان ووهبه الرحمن .. لقد وهب المولى جل علاه لعم "سعدان " العقل الراجح والذاكرة الحافظة الدقيقة التي وعت المئات من الأمثال العامية ، التي كان دائم الاستشهاد بها في حديثه .
كان لا يعوزه أن يجد المثل الصائب في موضعه ، فكان كلامه على الدوام حكمًا .. أضف إلى ذلك لفتاته الفكرية السديدة ونظراته الصائبة في الحكم على الأمور ، كان يشفعها بالمثل المطابق ، في شتى نواحي الحياة من سياسية واجتماعية واقتصادية وغير ذلك .. 
كنا إذا تكلمنا في السياسة ، وذكرنا حقوقنا وواجباتنا ، وجهادنا الواجب من أجل رقي ونهضة بلادنا ، كان عم " سعدان" يقول في حماسة حكيمة إن الحقوق ومعرفة الواجبات والتقدم لا يمكن أن يأتي إلا بالعمل والنضال ، ولا عزة ولا فوز بدون اجتهاد وتضحية ، ويؤيد رأيه هذا بالمثل القائل : " ما فيش حلاوة من غير نار ".
ويؤكد لنا .. أننا بإيماننا واستمساكنا بضرورة رقي بلادنا لا بد أن نحققها مهما بلغت قسوة الأحوال وصعوبة الظروف ، فيقول : " ما يمتش حق وراءه مطالب " .
وكان عم " سعدان " أيضًا موجهًا اجتماعيًا سديد الرأي ، يأمرنا بالمعروف والتسامح وحسن المعاملة وقبول الآخر ، وكانت له في هذا أمثال كثيرة ، أذكر منها : " استودوا تستحبوا " ... و " من قدم السبت يلقى الحد قدامه ، وخادم الناس يلاقي الناس خدامه " ..
وكان يدعونا إلى الوفاء وصون الأمانة واحترام الجار وكل من نتعامل معهم ، ويقول : " من أمنك لم تخونه ولو كنت خائن " .. وينادي برعاية حقوق الجار فيقول لنا : " النبي وصى على سابع جار " .. و " الجار ولو جار " .. و " اختار الجار قبل الدار " .. وغير ذلك من التوجيهات الاجتماعية السديدة .. 
وفي التوجيه الاقتصادي ، كان لعم " سعدان " حكم خالدة ، منها : " القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود " و " على قد لحافك مد رجليك " و " ومن استكتر غموسه كل حاف " و " يا مستكتر الزمان أكتر " .. 
وغير ذلك من الأمثال التي لم يكن يرددها عن بخل بل عن حكمة علمته إياها تجارب الحياة ، فهو لم يكن بخيلاً ، بل كان يمقت البخل ، وكل ما في يده كان لغيره عن طيب خاطر ، فيقول : " حبيب ماله ماله حبيب ، وعدو ماله ماله عدو " .. ويقصد بذلك أن عابد المال لا حبيب له ، وكان يتندر على البخل والبخلاء قائلاً : " كل عيش البخيل تضرة " و " مكتوب على باب البخيل عض قلبي ولا تعض رغيفي " ..
وفي نفس الوقت كان يدعونا إلى الإيمان والثقة بالله الذي لا حول ولا قوة إلا به ، كما كان يدعونا إلى ضرورة الإخلاص في العمل والتفاني فيه ، وترك الأمر بعد ذلك لله مصرف الحال والأحوال ، فيقول : " أعمل إلي عليك والباقي على الله " .. ويقول أيضًا : " العبد في التفكير والرب في التدبير " .
وكانت دعوته إلى التوكل لا التواكل ، مع ضرورة الأخذ بالأسباب ، وقد كان عدو الكسل والتراخي والقعود عند انتهاز فرص الحياة ، إذ يقول : " الرزق يحب الخفية ، والمبدر رزقه أكتر " .. و " ربنا بيوزع الرزق بدري والبركة في البكور " ..
وكان دعوة مخلصة للخير والقناعة ، وعدوًا لدودًا للجشع والاستغلال والطغيان على مال الناس ، فكان يقول لنا : " مال الناس كناس .. ومال تجيبه الريح تاخده الزوابع .. وبيت النتاش ما يعلاش .. والطمع يقل ما جمع " .. ، وغير ذلك من هذا القبيل . 
وحتى القانون لم يتركه الرجل الأمي البسيط دون أن يلخص لنا كثيرًا من جواهر مبادئه في أمثال كان يرددها عن فهم ووعي ودراسة .. ونذكر يوم احتكم إليه بعض أهل الحي في خلاف قام بينهم بسبب التنافس على شراء عقار في حينا ، كان أحدهم يملك عقارًا قريبًا من العقار المقرر بيعه ، فقال عم " سعدان" : "الجار أولى بالشفعة " ... أليس هذا مبدأ من صميم القانون .. !! ؟ 
يا رحمة الله على العم " سعدان" وأمثاله من فلاسفة الفطرة والحكمة الأولين ، فقد كانوا كنوزًا نادرة لأمهات الحكمة العامية التي جمعت بين مختلف المذاهب الفلسفية في كافة الأزمان والبلاد ..
نعم ، إن حكمة عامتنا جديرة بالبحث والدرس بعد الإعجاب والإكبار ، وآية العجب والإعجاز فيها أنها صدرت عن قوم أميين أنار الله بصائرهم فرأوا الحياة على حقيقتها ، وأفاض عليهم من نور حكمته إلهامًا فخلفوا للأجيال من أقوالهم دساتير فلسفية ، جمعت بين نقاء الجوهر وبديع التصوير فكان لها الخلود .. ورددتها القرون دون أن تعرف مصادرها .
شاركه على جوجل بلس

عن جريدة النداء المصرية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق