.

.

رأفت السويركي يكتب: السيد ياسين "علامة التحليل السياسي والاجتماعي"



الراحل الفذ السيد ياسين ماذا يمكن أن تكتب حوله؟ كلماتك المتعجلة لا بد أن تكون مناسباتية؛ يحكمها فعل الموت المباغت؛، لذلك فالعبارات تضيق عن الإحاطة بقيمة ومنزلة السيد ياسين؛ ذلك الرجل الهادىء الرزين المتأمل العميق. التقيته لمرة واحدة شخصياً فأسرني بطبيعته الإنسانية؛ لكني ترحَّلت في عوالمه الفكرية لسنوات وسنوات وتعلمت من كتاباته وكتبه الكثير الكثير؛ فأغنى فهمي وعقلي، وفتح لي آفاقا مشرعة باتساعها المعرفي في التعامل مع الراهن السياسي اليومي والمعرفي المتسع بسياقات ترصد التحولات العولمية في واقعنا. الراحل السيد ياسين كان رحلة من الغنى المعرفي في العلوم الاجتماعية والسياسية؛ وقد منحته خبراته السياسية والاكاديمية المعرفية قدرات وازنة ثقيلة القيمة عبر ممارساته السياسية والمعرفية والبحثية؛ وقد تجلت قيمته المعرفية في إنتاجه القيم المدعم بقدرات الإمساك المحكم باساسات علوم الاجتماع والسياسة والاقتصاد السياسي في حقولها المتسعة والمختلفة. 

لم يكن الراحل السيد ياسين أسير الماضي بعلومه ولكنه ممن فتحوا لي آفاق التصورات الاستراتيجية المستقبلية السياسية؛ حيث أعطى جهدا دؤوبا للنظر في قضايا ومستجدات ومستحدثات العولمة وهي تهيمن وتعيد صياغة العالم من جديد. الراحل في كتابه البارز" آفاق المعرفة في عصر العولمة"؛ يضع نصب عينيه تعظيم الاستفادة من التحول الهيكلي العولمي؛ بالاستفادة من المعلومات المتاحة عبر الانترنت وتحويلها إلى مصدر التطور المعرفي الذي نحتاج إليه في هذا الزمان الذي نعاني عربياً من تردي العملية التعليمية؛ عبر الاستفادة من ظاهرة "التعليم عن بعد". في المسألة الفكرية بتعقيداتها المختلفة لا ينبغي وأنت تعيش عوالم الراحل السيد ياسين ألا وتغوص في ثراء قدرته التحليلية؛ وإذا كنت عروبي النهج والانتماء وطنياً لا يجوز لك أن تتجاهل كتابه البارز "تحليل مفهوم الفكر القومي"، وإذا كنت تعيش الاعتزاز بهويتك وتحاول أن تفهم تصوراتها عليك أن تخوض جهد التفاعل مع كتابه "الشخصية العربية بين تصور الذات ومفهوم الآخر"؛ وإذا كنت مصرياً مهجوساً بشعورك الوطني وتعيش قضايا وتحديات الواقع ومتغيراته وتطوراته؛ فينبغي أن تثري ذاتك المعرفية بكتابه "مصر بين الأزمة والنهضة". الراحل السيد ياسين بموسوعيته المعرفية البناءة في كتاباته يطالبنا بـممارسة "النقد الذاتى المعرفى" لكشف العيوب الفلسفية العميقة "لما نعتنقه من إيديولوجيات" ولا نكتفي "فقط بنقد الممارسات السياسية السلبية".

وفي "الزمان العالمي من التنمية إلى العولمة" يطالبنا الراحل بالاقتداء بـ "نموذج الدولة التنموية – الذي- وجد تكريسا له أساسا فى اليابان وتسيطر فيه وزارة التجارة والصناعة MITI على مجمل النشاط الاقتصادى، ثم ظهور الصين من بعد باعتبارها دولة تنموية جبارة". وفي "الزمان العالمى من التطرف إلى التنمية" يرصد الراحل الكبير العقبات المتعددة التي منعت المجتمعات العربية من أن تعيش عصر صعود العقل والعقلانية، لعل أهمها الجمود الفكرى والتعصب المذهبى وطغيان النصوص...، ووضعت الخطوط الحمراء أمام انطلاق العقل النقدى لكى يعرض كل شىء على المساءلة...، خصوصا بعد تطور مناهج العلوم الاجتماعية واللغوية التى سمحت بتفسير وتأويل النصوص الدينية فى أى دين وفق المناهج اللغوية الحديثة التى ركزت على تشريح النصوص بشكل عام..." وحين النظر إلى موضوعة "الهوية العربية والهويات الوطنية" يطالب الراحل بالوصول إلى "الهوية الإنسانية" التي يقول حولها:" إننا جميعا - بشكل أو بآخر- متشابهون مهما اختلفت جنسياتنا لأننا بشر"؛ وحسب ما قرر الكاتب الأميركى مارك توبن فى كتابه - ما الإنسان- حين قرر أن الإنسان هو الإنسان فى كل مكان. وهى الفكرة الجوهرية التى ركز عليها الفيلسوف جيرمى ديـكين فى كتابه الأخير - حضارة التعاطف- والتى يرى أنها تمثل مستقبل الإنسانية فى القرون المقبلة بعد أن تمر بمرحلة العنف الدموى والإرهاب المعولم". ولأن الراحل الكبير كان إخوانياً في مرحلة شبابه الأولى ثم تحرر من الانتماء لهذه الجماعة، فقد وصف مسلكيتها في إحدى كتاباته بأنها تمارس "سياسة خداع الذات الإخوانية". وذكر بحرفه:"لا يمكن وصف سلوك جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية بعد أن أسقط الشعب حكم الإخوان الديكتاتورى فى 30 يونيو إلا بخداع الذات! وقد برزت مؤشرات خداع الذات بالزعم الإخوانى أن الملايين التى خرجت فى 30 يونيو أقلية ولا يكونون أغلبية. والزعم الثانى أن 30 يونيو التى خططت لها المبادرة الشعبية التى تمثلها حركة «تمرد» هى انقلاب عسكرى وليست ثورة". إن هذه المتابعة السريعة لعوالم المفكر الراحل السيد ياسين تدور على حواف بعض كتاباته؛ لكن التفرغ لقراءة أعماله لا تعادله متعة؛ فالدعاء أن يرحمه الله؛ إذ ترك فراغاً كبيراً على الشجرة حين سقطت ورقته.
شاركه على جوجل بلس

عن جريدة النداء المصرية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق