لعيد الأم مذاق خاص كل عام، فهو اليوم الذى يتطلع إليه الأبناء لإيقاف الصراع الأبوى، والامومى، فهو احتفال على مستوى الأسرة بالاحتفاء بنجاح دوران الزمن فى جعل أقدم الصراعات الإنسانية يتوقف، وقبول شروط التهدئة لمدة يوم واحد هو 21مارس من كل عام، يوم الإعلان الأسرى لكون كل المشاكل الأسرية المعروضة مطروحة للحوار، ومد زمن الهدنة حتى صباح اليوم التالى، انه الاحتفال المبرر لذلك بحجة عيد الأم، حواء التى تشارك آدم، الأب فى كل صفاتنا الوراثية، صفاتنا الوراثية هى التاريخ المكتوب الذى نحمله فى أصلابنا نتناقله من الآباء إلى الأبناء بصدق ودون زيف، ربما إلى حجم الصدق فى كتابة هذا التاريخ يرجع السبب فى تلك القشعريرة التى تصاحب نقل صفحاته فى كل مرة يعاد فيها كتابته، وفى تلك النشوة التى تنتهى بوضع آخر نقطة فوق حروفه.
المخطوطة التى تحملها امى!!
يتساءل العالم البريطانى" بريان سايكس" المختص فى الوراثة والبيولوجيا الجزئية بجامعة أوكسفورد ،فى كتابه" سبع بنات لحواء"، ترجمة"مصطفى إبراهيم فهمى" مكتبة الأسرة، من أين أتى أبيه وأمه؟ فيجد نفسه بحكم تخصصه العلمى أمام محاولة الإجابة على هذا السؤال الشخصى على مستوى كل تاريخ الجنس البشرى، وان يبحث فى مخطوطة ال"دانا" تلك المخطوطة التى لا يعترى حروفها البهتان، ولا يتمزق رقها، مهما طال الزمان بها، فقط هى مخطوطة تحتاج إلى من يفك شفرتها الوراثية، مخطوطة تحمل تاريخ العالم كما كتبه علم الوراثة، وهو تاريخ ديموقراطى فقد اشترك كل مواطن بشرى فى حمله، وكتابة كلمة فيه، عبر فيها عن رأيه بصراحة، وحرية تامة، ففى العام 1991م تمكن من الحصول على ال"دانا" لإنسان مدفون فى جليد جبال الألب الايطالية، تبين أنها لإنسان عمره بين 5000و5350سنة، قد مات، ولكن بالعثور عليه قد تم بعثه حياً من القبر، لتبدأ رحلة البحث العلمى بالسؤال هل هو لرجل أم لامرأة؟ سؤال يجيب عليه تاريخ فك الشفرة الوراثية الذى بدأ منذ العام 1953م، عندما توصل العالمان الشابان"واطسون"،و"كريك" فى حل البنية الجزئية ل"دانا"، وأن شفرتها تتكون من عشرين حرفاً هى أنواع الأحماض الامينية التى تتركب منها، والتى أحد شروطها الجوهرية أنها يجب أن تنسخ نسخاً أميناً فى كل مرة بعد الأخرى، وعلى الناسخ أن يراعى ترتيب الحروف، حيث لا مجال للإبدال، ولا للتصحيف، ولا للحذف، فكل فعل من هذه الأفعال كما هو يغير معنى الكلام فهو يغير شكل الجنين القادم، وتصحيف واحد لكلمة واحدة فى جملة واحدة ينتج عنه مئات الملايين من البشر المحتملين، وبعد ال"دانا" اكتشف العلماء"الميتوكوندريا" وهى تكوينات دقيقة موجودة داخل كل خلية، وهى ليست فى نواة الخلية، إنها ذلك الكيس الذى يحتوى على "الكروموسومات"، مع تقدم العلم المجهرى تم العثور بداخلها هى الأخرى على"دنا" خاص بها، هذه ال"دنا" المجودة داخل"الميتوكوندريا" يحصل عليها كل واحد منا عن طريق أمه فقط فهى محمولة فى البويضة فقط، ولا وجود لها فى رأس الحيوان المنوى الذى يخترق البويضة فهو يحمل"دنا" الأب فقط دون "دنا الميتوكوندريا"، وعليه فان الأمهات هن فقط اللاتى يمررن صفاتهم إلى الأبناء فى الجيل التالى، ففى كل مرة تنقسم البويضة المخصبة لتكون مضغة لجنين خلال تلك العملية كلها تكون"الميتوكوندريا" الوحيدة التى نعثر عليها هى نسخ من مثيلتها عند الأم، فالأب لا يمررها إلى الجيل التالى كما تمررها الأمهات.
الأمهات السبع
يتساءل "سايكس" هل ننحدر نحن البشر الأحياء اليوم مباشرة من الحفريات التى يتم العثور عليها حالياً فى العالم؟ أم أن هناك حفريات هى بقايا لأنواع من البشر منفصلة ورائياً عنا، وانقرضت؟ يجيب بأنه ليس هناك شك فى أن كل البشر الأحياء اليوم أعضاء فى أسرة واحدة، وأدت الأحداث التاريخية إلى اختلاط الناس فيما بينهم فى أجزاء مختلفة من العالم، ورغم تقطع الصلات بين أبناء هذه العائلة إلا أن الأدلة تشير إلى أفريقيا كأصل أول لكل البشر، وتمكن"سايكس" عبر مشروعه البحثى المسحى العلمى أن يصنف جميع أنواع الدانا الموجودة فى خلية الميتوكوندريا الأنثوية اى التى عند حواء فقط إلى سبع مجموعات هن السبع أمهات الأوائل لجميع أنواع البشر الحاليين على الأرض، فقد أعاد بناء الخريطة الجينية الوراثية ليكتشف سبع مجموعات يتراوح عمر كل مجموعة بين45000و10000سنة عبر تتابع وحيد وأصلى لجذر كل مجموعة محمول بواسطة أم واحدة فى كل جماعة عبر التاريخ الانسانى، فقد كشف العلم عن حقيقة اعتماد الإنسانية على سبع أمهات للعشائر البشرية فقرر"سايكس" أن يمنحهن أسماءً حتى يمنح نفسه فضولاً شخصياً للبحث عن حياتهن، فكانت أمهات البشرية تحمل أسماء"أورسولا"، و"إكزينيا"، و"هيلينا"، و"فيلدا"، و"تارا"، و"كاترين"، و"ياسمين"، وحتى تكون الأم منهن جديرة بالاحتفال بها فى عيد الأم اليوم، يجب أن تنجب بنتين على الأقل، ولا يشترط أن يكونا لأب واحد، فأمهات الذكور رغم فرح أزواجهن بإنجاب الذكور إلا انهم لن يسهموا فى نقل الدنا إلى صفحات التاريخ التالية، فأمهات البنات هن فقط اللاتى يستطعن الكتابة فى الماضى حيث لا توجد سجلات مواليد، ولا كشوف عائلات ليبقى السؤال أين عشن هاته الأمهات السبع؟
الأم أورسولا
ولدت قبل 45000سنة عندما كان الجو أكثر برودة من اليوم بمراحل، ولدت فى كهف على صخرة الجرف عند سفح ما يسمى اليوم جبل مونت بارناسوس على مقربة من معبد ديلفى الاغريقى فى بلاد اليونان حالياً على ساحل البحر المتوسط، قطعت أمها حبلها السرى بنصل حاد وأنجبت طفلتها الأولى وهى دون الخامسة عشر، وبعد أربع سنوات أنجبت ابنتها الأخرى، إنها الأم"أورسولا" أم 11% من سكان أوربا المحدثين.
الأم إكزاينيا
ولدت قبل اليوم ب25000سنة، حيث السهول تغطى معظم أوروبا من بريطانيا حتى كازاخستان، أرض عارية من الأشجار فيما عدا بعض الرقع المحدودة من الصفصاف، والماموث يسيطر على الطبيعة، وّلدت نفسها"إكزاينيا" فى كوخ دائرى قطره 3 أمتار، أصبحت حبلى فى وقت ملائم، وكانت أول أم تضع طفلتين فى مرة واحدة، إنها"إكزاينيا" أم 5 % من السكان الحاليين عن طريق احد توأمتيها، بينما التوأمة الأخرى ذهبت إلى سيبريا، واليها ينتمى شعب أمريكا الأصلى اليوم.
الأم هيلينا
عاشت الأم"هيلينا" منذ 20000سنة عندما كان العصر الجليدى على أشده، فالحقول الجليدية تغطى كل اسكندنافيا وتمت حتى برلين حالياً، وبحر البلطيق متجمد تماماً، والمحيط الاطلسى يمكن عبوره سيراً على الأقدام، تزوجت "هيلينا" من أول قاذف للرماح، وصائد للأيائل، وأنجبت بناتها الثلاث، وتوفيت وهى تصنع الثياب بسبب التهاب المفاصل فى الثانية والأربعين من عمرها، بعد أن تمكنت من رؤية أحفادها، إنها الأم"هيلينا" أم 47% من عشائر أوروبا المحدثين.
الأم فيلدا
كانت الأم "هيلينا" قد ماتت منذ 3000سنة عندما ولدت"فيلدا" والعصر الجليدى مازال محكماً قبضته على الحياة، منذ 17000سنة وسهول أوروبا مهجورة تماماً، وسيطر على الحياة كلها حيوانات وبشر مضغوطة فى أوكرانيا، وجنوب فرنسا، وايطاليا، وشبه الجزيرة الأيبيرية، تزوجت الأم"فيلدا" فى شمال اسبانيا من صياد ماهر، وأنجبت ثلاث بنات، لفتت الأنظار بطولها الزائد عن اغلب النساء، وعيونها اللبنية اللون، وشعرها الغامق المسدل على كتفيها، مات فى سلام أثناء نومها فى الثلاثين من عمرها، وهى الآن أم 5% من الأوروبيين المنتشرين فى غرب أوروبا، ورحل الكثير من أبنائها إلى الشمال حتى وصلوا إلى اسكندنافيا.
الأم تارا
عاصرت الأم"تارا" الأم"فيلدا" تقريباً منذ 17000سنة إلا انه من المؤكد أنهما لم يلتقيا مطلقاً فقد عاشت الأم"تارا" فى ايطاليا حيث تلال توسكانيا فى الشمال الغربى، لا توجد حيوانات التندرا، ولكن توجد الأيائل الحمراء والدببة البرية فى الغابات، ماتت أمها وهى فى العاشرة، وأخيها لم يتجاوز السادسة، وتولت رعايتها خالتها، أنجبت بنتين، وماتت فى الشتاء قرب الشاطئ ودفنت بعد أن غطوا وجهها بمسحوق من اللون الأحمر عثروا عليه فى الجبل، وأحاطوا رقبتها بعشرة خيوط بها مئات المحارات المثقوبة، إنها أم 9% من سكان أوروبا الحاليين.
الأم كاترين
منذ 15000سنة عاشت الأم "كاترين" عندما كان البحر الميت بعيداً عن شاطئ البندقية حوالى مئة ميل، وكان يمكن ل"كاترين" أن تمشى فى خط مستقيم من كرواتيا إلى ايطاليا دون أن تبتل قدميها، فقد عاشت فى سهل فسيح يمتد من البندقية حتى سفح جبال الألب، بمنطقة يحتشد فيها الخيول البرية، والماموث، بدت"كاترين" طفلة جميلة شعرها أشقر، وعيونها بنية، لم تتوغل فى العشرينات عندما أصبحت حبلى من صديق أخيها الأكبر، توفى زوجها لتهوره أثناء الصيد، ولدت طفلتها الأولى وظلت ترضعها ثلاث سنوات، لذا لم تحبل مرة أخرى تنبهت أمها لذلك، فأوقفت ابنتها عن الرضاعة، وأصبحت حبلى للمرة الثانية،"كاترين" هى أم 6% من سكان أوروبا المنتشرين حول البحر المتوسط اليوم.
الأم ياسمين
كان زمن الأم"ياسمين" أسهل بكثير من الأمهات الأخريات، فهى عاشت حياة مستقرة فى إحدى القرى الأولى التى تبعد عن نهر الفرات سوريا حالياً، حيث كان نهر الفرات يحمل الثلج الذائب من جبال الأناضول فى الشمال حتى الخليج الفارسى وقتها فى نهاية العصر الجليدى، تجمع"ياسمين" جوز البلوط والفستق من الغابات، وعملها الرئيسى هو الرعى، عرفت الأم"ياسمين" زوجها لا لبراعته فى الصيد، وإنما أحبت فيه فضوله، وذكائه، وطيبته، فقد تمكن من جمع بذور وأعاد زراعتها فى سهول النهر الفسيحة، ونجحت تجربته، وأنجبت منه أبناء وبنات كثيرون، إنها أم 17% من الأوربيين الحاليين.
انه سر الرحم الذى نتوارث حبه عبر الأجيال، انه مشروع علمى كبير مازال ينتظر الانتهاء منه لحصر العشائر الامومية على مستوى العالم حتى يصبح لعيد الأم فكرة عالمية تخترق حجب العنصرية، والبطش، والتمييز العرقى، فكل عام وأمهاتنا السبع بخير ما دامت الدنا بخير.
0 التعليقات:
إرسال تعليق