.

.

د. يسري عبد الغني يكتب: من الذي يصنع التاريخ؟



 إذا كان على المؤرخ أن يبحث عن موضوع له علاقة بقضايا العالم الحديث ، فلا بد أن نتساءل عن أهم القضايا التي تشغل بال المفكر أو المؤرخ في العصر الحديث ، هل هي سياسية / اقتصادية أم هي اجتماعية ؟
والإجابة : إنها الموضوعات السياسية بلا شك ، لقد شهد القرن العشرون حربين عالميين كبيرتين ألحقتا أضرار جسيمة بالعالم الذي تكبد بفعلهما خسائر باهظة ، وشهدت منطقة الشرق الأوسط التي نعيش فيها عدة حروب لا تزال آثارها السلبية تشكل عبء طاحناً على شعوبها ، ناهيك عن تجدد بعض هذه الحروب بشكل أو بآخر ، نضيف إلى ذلك ما حدث في العالم من تطورات مهمة مثل انهيار المعسكر الشيوعي وتفكك بعض دوله مثل الاتحاد السوفيتي ، ويوغسلافيا ، وتشيكوسلوفاكيا ، وسيادة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم كقطب أوحد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، وذلك تحت شعار العولمة ونشر الديمقراطية ومحاربة الإرهاب وبالذات بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 م وما ترتب عليها من توجهات وسيناريوهات كانت معدة سلفًا ، أضف إلى ذلك ما حدث في أفغانستان و العراق وغيرهما مع استمرار المشكلة الفلسطينية وتداعياتها .
الفيلسوف البريطاني / برتراند راسل لفت الأنظار إلى أن الحضارة الحديثة يمكن أن تقضي عليها أي حرب عالمية بسبب وسائل الدمار الشامل وأسلحته الفتاكة ، ومن ثم فإن الأبحاث والدراسات التاريخية يجب أن تعطي هذه الظاهرة الخطيرة اهتماما كبيراً متميزاً من البحث والدرس ، لأنها من أخطر قضايا الساعة التي تقلق تفكير الناس جميعاً على الصعيدين القومي والدولي .
نقول : يتعلق بدراسة الحرب دراسة الجهاز السياسي الذي تقع على كاهله مسئولية اتخاذ القرار بالحرب ، وبالتالي فإن جوهر القضية هو سياسي بالدرجة الأولى ، ويفوق كل القضايا أو المسائل الأخرى ، فعندما تضع الحرب أوزارها تتلاشى جميع القضايا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية ، أي يأخذ التفكير فيها أو حلها إجازة مفتوحة حتى إشعار آخر ، وهذا الإشعار يأتي بعد انتهاء الحروب التي لا يعلم إلا الله تعالى متى سوف تنتهي ، فكل شيء يصبح مؤجلاً أو ثانوياً بالنسبة لهذا الخطر الداهم الذي يهددنا جميعاً بالفناء ، ويهدد حضارتنا بالدمار الشامل ، فما الحديث عن الحرب إلا حديث مرجوم ، علمناه جميعًا وذقناه .
إننا نرى الآن حرص العديد من الدول حتى الفقيرة منها على اقتناء الأسلحة النووية ، وهذا خطر كارثي على البشرية جمعاء ، وليعلم الجميع أن الحرب لا فائز فيها ، فالكل سيعاني من الخسران المبين .
الحرب قد تقضي على الأزمات الداخلية مؤقتاً حيث تتجلى الوحدة الوطنية في الأمة في أروع معانيها دفاعاً عن الوطن الأم ، ولكن بعد الحروب تتفجر جميع الأزمات والمشاكل ، وتستمر معاناة الناس سنوات و سنوات .
وعليه فإن العامل السياسي هو العامل الأكثر تأثيراً في أحداث التاريخ الإنساني ، والأجدر بالاهتمام والبحث والدراسة .
إن القضايا الاقتصادية نفسها تابعة للقضايا السياسية وليس العكس هو الصحيح ، وهذا يخالف رأي الماديين ، ووجهة نظر كارل ماركس التي تغالي في أهمية العامل المادي .
وكما يقول (برتراند راسل) : إن القوة الاقتصادية تقوم على القوة السياسية ، وليس شرطاً أن يكون العكس ، ومن ثم فإن الموضوعات والقضايا السياسية هي أهم الموضوعات التي ينبغي على المؤرخ أن يدرسها ويبحثها ويتابعها بعمق وجدية .
وبالرغم من ذلك فإن هناك فريق من المؤرخين يهاجمون مسألة الاهتمام بالموضوعات السياسية ، ولكن نقاد التاريخ السياسي لا ينكرون أهميته ، وهم عادة يهاجمون جوانب القصور في دراسة الموضوعات السياسية أكثر من مبدأ الدراسة ذاتها ، فيقولون إن السياسة تشوه التاريخ ، وكثيراً ما استخدمت الدراسات السياسية في التاريخ كوسيلة لأغراض وأهداف دعائية وسلطوية بعيدة عن التاريخ ، وقد نجد كل باحث يسعى لاستخدام العامل السياسي من أجل أن يتطابق مع وجهة نظره الخاصة .
ويقول آخرون : إن التاريخ تصنعه الأيدي العاملة الكادحة وليس أفواه السياسيين ، وتصريحاتهم التي في الغالب الأعم كاذبة وغير صادقة .
ويقول فريق ثالث : إن التاريخ السياسي هو تاريخ السلطة الحاكمة التي يفرضها جماعة من الناس على الغالبية العظمى من شعوبهم لأنهم يملكون القوة التي تجعلهم يخضعون الناس لما يريدون ، أو لأن جماهير شعبهم تنقاد بلا وعي وراء هذه السلطة خوفاً منها ، أو عبادة لها ، ومن ثم فليس للجماهير المغلوبة على أمرها أو المنقادة أو الغير واعية رأي في اتخاذ القرار السياسي السليم .
ونحن نقدر جميع الآراء السابقة ، ولكن يمكن أن نرد عليها بأن القرار السياسي الذي تصدره الجماعة الحاكمة حتى وإن كانت أقلية لا تمثل الغالبية العظمى من الجماهير تمثيلاً صادقاً حقيقياً ، إلا أن هذا القرار السياسي يؤثر تأثيراً كبيراً على الغالبية .
إن المؤرخ السياسي إذا أحسن اختيار موضوعه وقام بدرسه وفقاً للمنهج العلمي السليم ، فإنه سوف يثبت عدم جدوى هذه الانتقادات ، بل على العكس أنه يستطيع أن يستفيد من النقد بجميع اتجاهاته ، ومن التطور في الدراسة ليجعل من نفسه باحثاً معتبراً يفوق رواد مدرسة التاريخ السياسي التي ظهرت في القرن التاسع عشر الميلادي ، خاصة أن القضايا السياسية أصبحت في النصف الأخير من القرن العشرين الميلادي أكثر تعقيداً وأجدر اهتماماً بالدراسة والتحليل من قضايا القرن التاسع عشر الميلادي .
إن المعلومات التي تخرجها معاول علماء الآثار ، والجدل الذي أثاره أنصار المدرسة المادية في تفسير التاريخ يجب أن تلفت أنظارنا جميعاً إلى أهمية التكنولوجيا الحديثة وآلات الإنتاج التي تتطور كل يوم كعامل له أثره المهم والفعال في أحداث التاريخ السياسية .
وعليه فإنه يجب أن نستفيد من النقاش والحوار الذي أثاره رائد مدرسة التاريخ الاجتماعي (ج . م . تريفيتليان) الذي جمع بين العوامل المادية والسياسية في قالب اجتماعي .
وعليه فعلينا أن نضع في أذهاننا مقولة اللورد / إكتون : " إن بعض الأحداث السياسية مرجعها أفكار ليست سياسية ." ، أي أنه يجب ألا نغفل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عند دراسة الموضوعات أو القضايا السياسية .
شاركه على جوجل بلس

عن جريدة النداء المصرية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق