.

.

جيهان مأمون : رحلة فى أحد أبعاد الزمان والمكان مع الأديب و المفكر الراحل جمال الغيطانى



جيهان مأمون : رحلة فى أحد أبعاد الزمان والمكان مع الأديب و المفكر الراحل جمال الغيطانى
المؤرخة والأديبة جيهان مامون








رحلة فى أحد أبعاد الزمان و المكان مع فارس الكلمة إبن الجمالية جمال الغيطانى الذى تفتقد المحروسة كلماته و تبحث شوارعها عن خطواته ، أسترجع فيها كلماته المضيئة التى لن ترحل أبدا فقد صارت جزء من نسيج الجدران و المبانى العتيقة و جزء من نسيج قلوب محبيه ، لم ألقاه فى واقع الحياة سوى مرة واحدة ، و لكنى التقيته فى خيالى آلاف المرات و هذه إحداها ... يجلس في مكانه المفضل مستندا بظهره إلى جدار جامع المؤيد الذى اعتاد أن يلوذ به من ضجيج العالم المادى اليومى و كأنه يصغى إلى الموسيقى الخفية التى تسرى فى عمارة المكان ... اقترب منه و عيناى تلمع من فرط السعادة و أنا أجلس أمامه ... أديبنا الكبير ، نفتقدك ... نهارك قشطة ، فى القاهرة فقط أديبنا الكبير ، كم شروق توالى بدون كلماتك التى تبث فينا قوة الحب لكل ما هو مصرى و لكل ما هو أصيل .... (ينظر للسماء عبر صحن الجامع ويردد بحنين خفى) سماء لا تشبهها سماء ، أقدر على تحديد أول شروق بعد وفادتى إلى العالم ، بعد لقاء عينى بالضوء المسافر من الأبد إلى الأبد ، من المصدر الكونى إلى موضع التلقى الإنسانى ، لايمكننى التذكر لأن الوعى لا يحتفظ باللحيظات الأولى ، ربما يتردد صداها داخلنا ،

لكن أنى لنا أن نعى صعب على تذكر السبب الذى جعلنى أخرج بصحبة الوالد رحمه الله إلى السطح فجرا ،غير أننى أعى تماما وقوفى متطلعا إلى ذلك اللون الأحمر الذى يجئ من عتمه الليل مزيحا النجوم الأقاصى ،أحمرارا خفيف لكنه قوى ،يمهد لدرجة أقوى من الأحمر الغامق حمرة متدفقة مستمرة تنبئ بمصدر خفى ، تتعاقب درجاتها بحيث يصعب رصدها أو حصرها أو تعداد درجاتها ، عند لحظة معينة يتدفق الضوء كأنه ينفجر ، ومن هنا سمى الفجر فجرا فى اللغة العربية أديبنا الكبير ، هل الشروق يمثل لك الحياة ؟ (يرنو ببصره نحو ضوء الشمس التى تتراقص على أرضية الجامع عبر القمريات الملونة و يقول بحنين) كم شروق توالى على تلك الأرض التى كانت أول ما رأيت ، أقدم ما تحتفظ به ذاكرتى ، ذلك الأفق القاهرى ، كم شروق توالى عليه منذ أن كانت أرضا وعرة موحشة حتى سريان نهر النيل إليها ، وتكون الأحراش ودبيب الحيوان وسعى المخلوقات كافة وجهاد الإنسان كم شروق منذ بدأ تحديد مسار الضوء عبر إقامة الجدارن والنوافذ ، مستطلية مستديرة مربعة الأسقف ، سواء كانت لمعابد تواجه مسارات النجوم والكواكب أو مقابر تحفظ الموجود فى اللا موجود، منذ أن تشكلت ملامح أول مدينة نعرف إسمها ( منف ) فى الزمن العتيق موقع توارثته عدة مدن ، أسهم فى ظهوره عوامل شتى منها الجغرافى والسياسى والإجتماعى والدينى والإنسانى بكل مستوياته ، و لاتزال أطلال (منف) إلى الجنوب من أهرام الجيزة إنه الموقع الرمز ، القريب من إنشطار نهر النيل إلى فرعين يتجهان إلى البحر ، يسافر فيه الماء القادم من الجنوب إلى الشمال ، أما مصدر الضوء الأقوى ، الذى لاتقدر العيون على التطلع إليه والتحديق فيه فيرحل من الشرق إلى الغرب عابرا الأرض والنهر الممتد بالعرض هكذا حدد الإنسان الجهات وكان ذلك منطلقه إلى رصد سمات الكون
وعلاماته وعندما شرع فى البناء ، رأى المرجعيات الكبرى للوجود ، فأضلاع الأهرام تواجه الجهات الأربع ، والمدخل إليها دائما إلى الشرق ، كذلك يتجه تمثال أبو الهول مواجها الأبدية والحركة الكونية بإبتسامته الغامضة ، والتى يمكن أن نرى فيها المعانى المتناقضة ، من سخرية إلى شجن إلى أسى على ما يمضى ويندثر ، إنها نفس النظرة التى نراها ، تحديق التماثيل المصرية القديمة فينا المتجهة إلى اللا مكان ، إلى ما يصعب تحديده أديبنا الكبير ، فلسفتك للحياة تتخطى حدود الأزمنة و تستدعى قوة الكينونة فى المكان التى تسرى عبر لحظات الحياة المتغيرة ... كل لحظة تستدعى موضعا بعينه ، وكل موقع تحتويه لحظة ، و مكانى المرتكز ، منطلقى ذلك المسمى بالقاهرة ، القاهرة القديمة تحديدا ، القاهرة التى تعتقت فيها الأزمنة المتعاقبة أخطو إلى المكان شيئا فشيئا يتسرب المكان إلى ويبدأ إندماجى به ، نتبادل المواقع ، يصير المكان عندى وأصبح جزءا منه ... قصيد الحجر .. بنيان الرضا ....وعمارة السكنية أديبنا الكبير ، كلماتك أقرب لترنيمة هائمة عبر كل الأزمنة تجعلنا نتخطى الحدود و نلمس قلب مصر ... إن المساجد والتكايا والزوايا والخانات وما تبقى من عصور مختلفة ، ليست عمارة من أحجار وزجاج وخشب وجص وما تيسر ، إنها تاريخ حى ماثل أمامنا ، تاريخ لمراحل الصعود ولمراحل الأنهيار ، يمكن قراءة أحوال المجتمع وأحوال الخلق فيما نراه ، لكن ما يعنينى تلك المجاهدات الروحية للمصريين ، تلك المحاولات للإرتقاء ، لعبور الخط الفاصل بين الظاهر والباطن أديبنا الكبير ، التاريخ ينقسم إلى شطرين التراث الحضارى لتنوير الحاضر ، و التراث المعمارى الذى يعكس التطور الإنسانى ، كتاباتك الفريدة تعتبر وحدة قياس لإنعكاس المكان على الزمان و ارتباطهما بالإنسان .... (يعتدل أديبنا الكبير فى جلسته و يشير بسبابته إلى أعلى إلى القبة التى تظلل الجامع) هنا ، تحت هذه القبة الشاهقة حيث المادة الروح والجسد ، كل ما ينطق به الإعجاز المعمارى ، هنا تبدو قدرة مصر على فرض مضامينها الروحية فهنا يتحول الحجر إلى همسة والخشب إلى صدى والكلمة إلى رمز والوجود كله إلى حلم (و يتوجه نحو المدخل بحركته الموزونة و ينظر له بقداسة ) المدخل ، هو الذى يفصل بين عالمين ، بين العام
والخاص بين الوضوح والسر، بين العلانية والخصوصية
(و يجتاز الدهليز بتؤدة و هو يقول ) ما من مرة عبرت فيها هذا الدهليز إلا وشعرت أننى أرتحل أو أننى أنتقل من طور إلى طور ، فاصل بين عالمين , المادى اليومى بكل ما فيه من ضجيج وكدورات ، ومشادات وصراعات سخيفة ومفارقات ، وبين هذا العالم الروحى الذى يتجه فيه العبد إلى ربه ، ويتضح الأمر بين الإنسان وخالقه ، إنها خطوات قليلة لكنها تفصل الإنسان وتهيئه للدخول إلى عالم مختلف
شاركه على جوجل بلس

عن جريدة النداء المصرية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

1 التعليقات:

  1. تسلم يداك على هذا الجهد وياليت المزيد زادك الله علم

    ردحذف