.

.

د.خالد عبدالغني : في بيت البروفيسير حسين عبدالقادر كانت لنا أيام


       مرت الأيام بعد ذلك اللقاء الأول معه وبين يدي رقم الهاتف وتدعوني أشياء لكي أتصل بالأستاذ الذي لم أعرف عنه غير ما ظهر لي في اللقاء الأول،، وفعلاً يتحقق الإتصال ولكن ماذا أسمع..؟. مقطوعة موسيقية أغلب الظن أنها من التراث العالمي.. وصوت ندي يأثرك دون أن تدري يقول: " من فضلك أترك اسمك ورقم هاتفك ويقيناً سيسرني الإستماع لصوتك". ومن حلاوة تلك الإيقاعات الصوتية  كنت أكرر الاتصال لسماعها. متى تحب أن أزور سيادتك ، قل أنت، وفعلاً تحدد الموعد للقاء في البيت، وأخذ السؤال يلح على ذهني ما الذي يدفع أستاذ بجامعة المنصورة – هذا كل ما أعرفه ساعتئذ - أن يرحب بزيارة طالب بالسنة التمهيدية بآداب عين شمس له في بيته؟ ولم أستطع أن أسأله هذا السؤال حتى الآن، وعبرت الطريق ودخلت العمارة وصعدت السلم وتعثرت قدمي ووقعت فالسلم دائري والمصباح مطفأ وضغطت على الجرس وفتح الباب نصف فتحة تقريباً بحيث تدخل بجانبك، كان يكفيني أقل من ذلك بكثير فقد كنت نحيفاً، وعندما ولجت قدمي وقعت عيني على الجانب الأيسر لمدخل البيت فإذا به ردهة طويلة تملؤها الكتب من الأرض وحتى السقف وهذا هو السر في فتحة الباب الضيقة، وعندما  تعبر تلك الردهة تقابلك السفرة ومن فوقها ومن أسفل منها الكتب المصفوفة في كل الجنبات وفي آخرها باب البلكونة المليئة بصناديق الكتب، وعن يسارك وأنت تقف أمام البلكونة حجرة الصالون المليئة بالكتب في جهاتها المختلفة  - أعرف فيما بعد أنها تلك الحجرة الذي يستقبل فيها الأستاذ مرضاه - ، فيطلب منك الأستاذ بعد الترحيب والكلمات الرقيقة أن تجلس فلا يسعك إلا أن تستجيب له، وأنت مبهور بكل تلك الكتب التي وضعت على الرفوف بطريق يجعلك من العسير الوصول لما تريد بسب كثرتها، ثم تأخذ عينك بعض اللوحات المبثوثة هنا وهناك لتقرأ فيها عبارات أعرف أنها من أشعار المتصوفين وموقعة باسم سامي علي() فهو الفنان الذي رسم تلك اللوحات ولابد أنها من إهدائه، وكتب بالفرنسية لمصطفى صفوان () وبالإنجليزية لفرويد وغيره، وما إن تجلس على المقعد وأعلاك شباك الغرفة وتنظر إلى يسارك حتى تطالع صورة أبيض وأسود للأستاذ في صدر شبابه، ويسألك الأستاذ ماذا تشرب فتقول لا أريد شيئاً فيرد عليك لا ..لا .. لابد يا سيدي، فيغيب لحظات ويعود عارضاً عليك ما جاء به ومتسائلاً  كم ملعقة سكر ليضع
بنفسه السكر ويقلب الشاي ويدعوك لتناوله، وليبدأ الترحيب والسؤال للإطمئنان والحفاوة والتقدير، وأسأله أين تعمل سيادتكم؟ فيرد في جامعة المنصورة قسم علم النفس. ألم تدرس في عين شمس؟ بلى ولمدة 14 سنة تقريباً. وماذا أيضاً؟ فيقول أشغل حالياً منصب مدير فرقة الغد للعروض التجريبية. ويمد يده ويعطيني كل ما يتعلق بالفرقة من المقالات والأفكار والتدريبات والعروض المسرحية الخ. وينتهي اللقاء ويتكرر مرة ومرات وفي كل واحد منها يهبني بعض أعماله حتى كان أول كتاب يُكتبْ عليه إهداءً لي من أحد وهو كتابه "انحراف الأحداث والسيكودراما" 1994. وذلك في العشرين من أبريل 1995. جاء فيه " الزميل العزيز الأستاذ ..... عاطر الأمنيات لإبحار دائم لشطآن التفوق "()،  وكان عندما يحب أن يعرض لقضية ما تجده وقد انتفض ليسحب كتاباًً أو عدة  كتب من أماكن يعرفها بكل دقة، وبعد سنوات بلغت العشرين اصطحبني للدخول إلى الغرف الداخلية للبيت لأجد الغرف مليئة بالكتب حتى تلك الردهة الواصلة بين المطبخ والحمام وتلك الحجرات لم تسلم من وجود الرفوف عليها، وحتى دواليب الملابس مليئة بالكتب، ووجدت فيها ألواناً شتى من المعارف الإسلامية والفلسفية والفنية والأدبية والسياسية والاجتماعية بل والمخطوطات أيضاً مما تعد كنزاً حقيقياً، ولما صارحته بشعوري بأن بيته يذكرني بالجاحظ صدرت منه ابتسامة قليلة في هذه الأيام وقال ولكن الجاحظ وقعت الكتب على رأسه فمات، ولكن هل تعلم أن الثلاجة كانت هنا مشيراً إلى جهة من الصالة ووقعت الكتب فوق أحد الزائرين ذات يوم.
    ولما ذهبت لزيارته لأعرض عليه خطة أطروحة الماجستير حول اضطرابات النوم ولأقول له "إنها أول رسالة في الموضوع" فإذا به يقف ويصعد عدة درجات على أرفف المكتبة ليأتيني بكتاب أبو مدين الشافعي حول الأرق، والكتاب صادر في الأربعينيات من القرن العشرين، وكتب أخرى، ولما طلبت منه أن يحكم مقياس اضطرابات النوم ، قومه بكل دقة عارضاً أن تكون العبارات مفتوحة النهايات ليصبح في صورة شبه اسقاطية، وتمنيت لو أنه  شارك في الإشراف أو المناقشة ولكن كل هذا لم يحدث ولكنه تابع باهتمام كل تلك الأحداث، وسره – حينها - أيما سرور موقف العلامة قدري حفني رئيس لجنة المناقشة حين تصدى لغلو أحد المناقشين.
     فعادة القراءة التي شب عليها الأستاذ دفعته لإقتناء هذا الكم الهائل من الكتب في تنوعها واختلافها وكان في أيام مضت صديقاً وعارفاً لكل باعة الكتب القديمة والحديثة في مصر، ولذا فقد صنع عالماً خاصاً به يلوذ به كلما ألمت به الملمات ويقضي مع تلك الكتب الساعات والساعات، فها هي الطبعات الأولى لمجلة علم النفس التي اصدرها يوسف مراد ومصطفى زيور، ومجلة الرسالة لأحمد حسن الزيات، وغيرهما الكثير والكثير، وها هي الكتب النادرة في علم النفس مثل "كتاب علم النفس للشيخ محمد شريف سليم"، وغيره، وكتب التراث العربي في طبعات نادرة تزين رفوف تلك المكتبة التي تحتاج جهداً فائقاً لتبويبها وفهرستها لكي تسهل عملية العثور على ما تريد منها، فهناك واقعة تشير بذاتها لذلك ففي أحد الأيام كان الأستاذ يعد مناقشة لإحدى الأطروحات حول الثلاثية لنجيب محفوظ وكان يحب أن يراجع بعض صفحاتها ولما تعثر عليه الوصول عل نسخة الرواية من المكتبة، خرج لشراء نسخة من الرواية، ومن المؤكد وجود نسخ عديدة لكتب بعينها في تلك المكتبة العامرة.


     ولكني رأيته ذات يوم آسفاً حزيناً على فقد نسخة من الطبعة الأولى لتفسير الأحلام ترجمة صفوان والتي درسها بالجامعة وفيها تعليقات بخط يده ومجلدة تجليداً خاصاً به، حيث أخذها أحد أصدقائه ولم يردها له، وحينها شعرت أن الكتاب بالنسبة للأستاذ قضية فهو يعيش معه بعض الذكريات، ولم أر أحداً حريصاً على متابعة الجديد والنادر مثلما رأيته فما من كتاب أحدثه عنه إلا ويقول لي "ممكن نحصل على نسخة أو نصور نسخة" وربما كان لذلك بعض أثر في تكويني العلمي حيث حرصي على اقتناء الكتب والمقالات والبحوث التي كتبها الأستاذ خلال مسيرته العلمية.
     إنها ليست مكتبة ولا بيت فهو بيت في هيئة مكتبة ومكتبة في إهاب بيت ، عموماً فهو يسكن فيه  / فيها / ويجد فيه راحته ومتعته، أتمنى أن أجد أعماله الكاملة تأخذ حظها في تلك الرفوف فتكتمل بهجة مشاعري، وهذه أمنية شخصية أرجو تحقيقها.

الهوامش:
- سأعرف بعد ذلك أنه أد.سامي محمود علي الاستاذ بجامعة باريس 7 ومؤسس وحدة الأمراض السيكوسوماتية بها وترجماته لمؤلفات فرويد وغيره وكتبه المؤلفة سواء بالعربية أو الفرنسية وعلاقة الأستاذ به منذ أن درس على يديه في دبلوم علم النفس الإكلينيكي عام 1965 بآداب عين شمس. ولقد أخبرني الأستاذ الدكتور عزت الطويل بأنه درس على يديه – وهو لما يزل بعد في مرحلة الماجستير - في آداب الإسكندرية في النصف الأول من الستينيات من القرن العشرين.

 - سأعرف بعد حين أن مصطفى صفوان أحد أبرز ما لم يكن علم اللاكانية الوحيد في العالم وأنه مقيم في باريس منذ ما يزيد عن خمسين عاماً وأقرأ له بعض الأعمال وليحكي لي الأستاذ عن تلك العلاقة الحميمة التي تجمع بينهما وتلك الزيارات السنوية لباريس وحواراته ولقاءته مع أعلام التحليل النفسي هناك وجهوده في التعريف بالتحليل النفسي في مصر وموضوعات أخرى كثيرة حدثت على مدار السنوات الطويلة التي بلغتها تلك الرحلة الصيفية الباريسية، وليتحقق لي في عام 2008 رؤية العلامة صفوان عندما كنت في شرف استقباله في مطار القاهرة لكي يكون رئيس شرف المؤتمر الدولي الثالث للمحللين النفسيين العرب حول العنف والإرهاب والذي نظمته الجمعية المصرية للتحليل النفسي بالقاهرة.
 - أي تواضع هذا الذي نراه ، وأي دفع للأجيال الجديدة، وأي نموذج يحتذى ، ومثل أعلى يقتدى به ، وأي أفق نرنوا إليه، إذ يخاطب تلميذاً لم يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر ويناديه بالزميل، ألا ما أبهاك أيها الأستاذ!!!!.
شاركه على جوجل بلس

عن جريدة النداء المصرية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق