.

.

د.يسري عبدالغني يكتب : في مكتبة العم خربوش أول ميثاق شرف لأهل الكلمة


في شارع البراموني بحي عابدين بالقاهرة القديمة ، والذي يقع ما بين القصر الجمهوري ومستشفى أحمد ماهر ومرورًا بالمعهد الأزهري ومستشفى الجمهورية ، وفي وسطه كانت تقع مكتبة العم خربوش ، بيت قديم لا شبر فيه إلا وعليه كتاب ، ندخل إلى فناء البيت ونجلس ونبحث عن الكتاب الذي نريده : أدب ، لغة ، فكر ، علوم ، دين ، إبداع .... إنها مغارة علي بابا فيها كل ما تريد من كنوز المعرفة ، القراءة بالمجان ، لا قيد ولا شرط ، إلا أن تحترم الكتاب ، وتلتزم بأدب القراءة ، ومن الممكن الاستعارة الخارجية دون أي ضمان ، إذا وجد فيك العم خربوش سمات القارئ الجاد الملتزم بغض النظر عن سنك أو تعليمك ...
في مكتبة العم خربوش المجانية التي وهبها لوجه العلم ، على بابها يجلس العم خربوش ، بجلبابه الأبيض النظيف ، وبلحيته القصيرة البيضاء ، وبطاقيته الخضراء ، وبابتسامته الصافية الحنون ، إنه دائرة معارف تمشي على قدمين ، يأتي إلى المكتبة كل محبي العلم والمعرفة والإبداع من كل حد ب وصوب ، من القاهرة وخارجها ، في وقار وصفاء يتحدث معنا في كل شيء بدءً من الجاحظ وما قبله إلى زكي نجيب محمود ، مرورًا بالعقاد وطه حسين ، ولا مانع أيضًا من عبد الصبور وأمل دنقل وصلاح طاهر والأخوة وانلي ... الشاي في المكتبة بالمجان ... سألته وكنت شابًا صغيرًا ، وما الذي تستفيده ؟ ، قال لي : لا يعرف العشق إلا من ذاقه ..
يأتي إلى مكتبة العم خربوش بمقاعدها القديمة ، كل الفئات والأعمار والأصناف والأشكال ، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ، الكل يتكلم ويتحاور ويناقش وفقًا لشروط العم خربوش ، هذه الشروط هي : لا تأتي بسيرة أحد إلا بكل خير ، ولا تتحدث عنه إلا وهو موجود أمامك ، لا تطعنه بكلمة سيئة ، ساعده قدر الإمكان ولو بالكلمة الطيبة ، الحوار يجب أن يكون بالتي هي أحسن ، لأن أهل الكلمة يجب أن يجمعهم الود والحب والتراحم ، يجب ان تتمنى لأخيك الخير والسداد ، إذا نشرت له قصة أو قصيدة أو كتاب كن أول المهنئين له ، وقف بجواره وشاركه فرحته ، تمنى له الخير في كل وقت ، ورد غيبته ...
ولا أنسى العم خربوش عندما مرض أحد القراء في مكتبته ، وأخذنا جميعًا لزيارته والسؤال عنه ، وكرر الزيارة أكثر من مرة ، بل أنه كان يذهب إلى أهل بيته يسألهم عن كل ما يحتاجون ، ويؤديه راضيًا قرير العين ، حتى شفاه الله وعفاه ، كان يطلب منا عيادة المريض بصفة عامه وبالذات الأصدقاء من أهل الكلمة ، وأن يشارك بعضنا البعض أفراحه وأتراحه .
في مكتبة العم خربوش ، لا نفاق ، لا رياء ، لا ادعاء ، لا غيبة ، لا نميمة ، لا غرور ، لا كذب ، لا حقد ، لا حسد ، لأن أهل الكلمة عليهم نشر كل قيم الحب والخير والحق والجمال ، فهم المثل الأعلى الذي يجب أن يحتذى ...
وبعد عام 1975 ومجيء عهد الانفتاح الأسود ، توفى العم خربوش ، وجدوه ميتًا في مكتبته ، فوق مجموعة من كتب التصوف ، وبالتحديد الفتوحات المكية لابن عربي ، وبقدرة قادر ، تحولت المكتبة ، إلى عمارة شاهقة ، وكلما مررت عليها ، تذكرت العم خربوش الذي أعلن أول ميثاق شرف للمبدعين والكتاب في مكتبته ، التي تعلمنا منها الكثير والكثير في شبابنا ، رحم المولى العم خربوش ، وكل خربوش يفهم جيدًا معنى ميثاق الشرف بين أهل الكلمة
شاركه على جوجل بلس

عن جريدة النداء المصرية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق