.

.

د / علاء الدين رمضان يكتب : مكان آخر للسهرة قراءة في ديوان "روحي طالعة .. بالقصيدة للشاعر محمود الازهري"

د. علاء الدين رمضان

     عند الدخول إلى قراءة ديوان الشاعر المتميز محمود الأزهري ( روحي طالعة بالقصيدة )، علينا أن نقف أولاً لتحديد الاتجاه الشكلي لتلك القصيدة التي يعنيها، وربما تدلنا معرفتنا السابقة بمجمل أو جُل نتاج الشاعر سيدفعنا للحكم المتسرع بأنه يومئ من قريب إلى قصيدة النثر، وسيعيننا البناء اللغوي للعنوان على القطع بذلك، قبل أن ندخل إلى قصائد الديوان لنجدها تسخر من حدسنا هذا ، وترسخه في آن واحد؛ فالديوان يقلب أوجه المقدرة الشعرية لدى الشاعر في التكثيف العميق والطرح اليومي، وفي الاعتماد على الإيقاع الصوتي والإيقاع المعنوي وفي الوزن والنثر، وفي وزنه ما بين الإشارة إلى القدر الفضفاضة ممثلة في قصيدة التفعيلة، والقدرة المحكمة ممثلة في النموذج التقليدي، غير أن هذه أمور بعد تأملها وأخذها في الحسبان يجب القطع بأن القاعدة الرئيسة لشكل واتجاه النص الشعري عند الأزهري هي قصيدة النثر .
وقصيدة النثر ترجمة لمصطلح  Poeme  en  prose  فرنسي الأصل، الذي وُضع بوصفه تحديداً نوعياً لبعض كتابات آرتور رامبو النثرية المشبعة بالشعر مثل: " موسم في الجحيم" و"إشراقات" ( ). وهي ذلك النمط الذي أطلق عليه جون كوين ( قصيدة معنوية ) لأنه نمط يُهمل الجانب الصوتي ويكتفي بالاعتماد على وجه واحد من وجهي اللغة الشعرية .
وفي الثقافة العربية يُعد مشروع قصيدة النثر زمنياً أقدم في نشأته من قصيدة التفعيلة، هذا التيار الذي يمثل استلاباً كاملاً لموسيقا الشعر الخارجية، إذ يعتمد اعتماداً تاماً على البنية الإيقاعية المستمدة مما يطرحه من جو نفسي وتصوير جمالي؛ كما تُعد قصيدة النثر، أول خروج تحويلي صريح من البنية الكمية للعروض العربي إلى البنية الكيفية أو الإيقاع النبري للبنية الشعرية .

الشاعر محمود الأزهري



وهذا الديوان يعد مرحلة نموذجية من مراحل التحول الموسيقي من الموسيقا الكمية إلى الموسيقا الداخلية والإيقاعات المعنوية ، فقد عالجت تجربة محمود الأزهري قبل مرحلة قصيدة النثر مرحلة من الشعر الكمي الذي يتخذ من التفعيلة الحرة أو البيت العروضي شكلاً أدائياً لها ؛ وهذا الديوان ينتمي إلى المرحلة التي بدأ فيها الشاعر تحولاته الفنية والصوغية فجاءت بعض قصائده موزونة تتحكم في موسيقاها تفعيلة محددة، بل أحياناً يستخدم بحراً راقصاً كالرجز مثلاً في قصيدة " يقين "، التي يقول فيها :
هذا يقيني أدعيه قصيدة
و قصيدتي لا تستكين لدعوتي
                   ترجو الدليلْ
هذا السبيل يصيد أفئدة البناتِ ..
ولا مثيلَ له سوايْ
لكنما كل البنات تملن لهْ
       وليس واحدة إلى قلبي تميلْ
كما قصد الشاعر قصداً إلى التأكيد على وعيه الموسيقي بإدراج صوت موزون مقفى داخل قصيدة من النثر ، كما في قصيدته " شرح " التي يقول في مطلعها :
لم يكن عارا علىّ
        أن أشرح لامرأة
      ما غمض عليها
        من خطبتنا في المسجد
حيث ختم القصيدة بقول كُثَيِّر عزة من الطويل :
وَدِدْتُ وَمَا تُغْنِي الوَدَادَةُ أَنَّنِي
                     بما في ضمير الحاجبية عالمُ
فَإِنْ كَانَ خَيْراً سَرَّنِي وَعَلِمْتُهُ
                  وَإِنْ كَانَ شَرًّا لَمْ تَلُمْنِي اللَّوَائِمُ
وإن كنت أرى أن من الحذق والقوة أن يصوغ لنفسه نصاً ، وهو قدير على ذلك جدير بأن يفعله . 
وخلاصة ما تطرحه تجربة الديوان في هذا الجانب أن الشاعر يشير إلى اعتماده كل الألوان الشعرية ذات الوزن الكمي أو الوزن الامتدادي أو الخالية من الوزن العروضي؛ لكنها بمنطوق يُخالف منطُوقه هو نفسه في قصائده كما في "حذف"، وفحيح"، حيث يقول في " فحيح " :
عند هذا الحد راجعت قصائدي
        وجدتها نثريه
 ما هذه المهزلة
    حتى الإنسان يصير حداثياً
    دون أن يدرى أنه حداثي
              ألا يكفى فحيح الثعابين ؟!!!
فالأوزان عنده مقصودة بتفاعيلها، ومجتلباته مقصودة بأوزانها، وكذلك قصائده النثرية اتخذ منها منهجاً صوغياً تنكر فيه للعروض الخليلي ، واتخذ من الفكرة مطيته الجمالية للتعبير عن تجاربه ووجدانه ؛ وليس غريباً آنئذ في غياب الوزن أن تتحمل الجملة الشعرية في قصيدة النثر عبء الدور الإيقاعي اللغوي، إذ يستغل الشاعر كل إمكانات الألفاظ الموسيقية ليعوض هذا النقص، ويستتبع الخضوع لتيار النثر أيضاً ظهور تعبيرات وأساليب لغوية جديدة، تتلاءم مع هذا الشكل الشعري وتعوض موسيقاه الغائبة( ).

وللشعراء حرية الاختيار، في قضية صوغ الجملة الشعرية والتشكيل الدلالي للعبارة، ما بين تخليق اليسير الذي يتخذ منه موصلاً لوجدان التلقي أو تعميق وتكثيف الطرح بالإيغال الجمالي والبحث عن التناسب العباري والتوازيات والتوازنات اللغوية وتخليق الإيقاع الداخلي للنص من خلال اللغة والدلالة ، وهو ما عهدته قصيدة النثر منذ مرحلة مبكرة في تاريخها الصوغي ، فهناك دوماً معايير صوتية أولية يجب على الشاعر مراعاتها في أنواع من الموازنات، من حيث التناسب والتوازي، أو تناسب الجمل من حيث الطول أو القصر، والأصوات اللغوية المستخدمة في بنائها، معتمداً على جرس الحرف وتكراره داخل العبارة الشعرية وفق أنساق التكرار المعروفة؛ غير أن هذه المعايير لم ترسخ في قالب علمي مقنن، إلى جانب عدم اهتبال الشعراء أنفسهم للاحتكام إلى قاعدة ما بشأنها، ويعزى ذلك إلى الضعف أكثر ما يعزى إلى القوة، بعد أن وجد شعراء النثر طريقاً خلفياً إلى الشعر، دون المرور على قنطرة الوزن، بل إن بعضهم تجرد عن القواعد اللغوية نفسها، وبذلك فقد شعراء النثر العرب تلك القيمة الجدلية المميزة القائمة بين النص والنظام من ناحية، وبين استلاب ذلك التناقض عن طريق إقامة ضرب من التكافؤ بينهما من ناحية أخرى .
ويضع الشاعر الأزهري عنوان مجموعة ( روحي طالعة بالقصيدة ) أيدينا على الاتجاه الذي هرعت صوبه تجربة الأزهري، إنه اختار الاستخدام التواصلي الذي يأخذ نمطه من لغة الحياة اليومية والاعتماد على الوصف والديالوج النفسي والحوار الجدلي .
ولا عجب هنا فيما أراد الشاعر لنفسه من اتجاه صوغي، حيث إن القصيدة عنده هي الحقل الذي يستنبت فيه روحه، وبهذه العملية التي تشيع الحيوية والحياة يُشاكل الشاعر بدلالة يومية أخرى عكسية الاتجاه الدلالي حيث تعني عبارة العنوان الطلوع بمعنى الخروج والانقضاء، أي الموت؛ وفي حين نرى أن الإصابة اللغوية مع الفهم الأول الذي يشيع التجدد والحيوية ويهب الحياة؛ نشير إلى أن الإلباس الدلالي من مقصودات الشاعر ومراده تحفيزاً وتوجيها لوجدان التلقي بحسب الحالة النفسية والذهنية للمتلقي نفسه؛ أما على مستوى التجربة الشعرية فقد استخدم الشاعر الدلالتين في شعره؛ فاستخدم الدلالة السلبية في قصيدة كأن "ها" الحقيقة، حيث قال :
قلت أنا في نفسي :
الأغاني ما أبعد "ها " عن التجريد
وبطلوع الروح حاولت أن أخرج حبيبتي مني
كما استخدم الدلالة الإيجابية في قصيدة " شروق "، حيث يقول :
الشمس الطالعة النازلة ..، شمس
إنها الفكرة التي تسيدت المشهد الشعري – أو يجب أن تصبح كذلك – في قصيدة النثر ، والأزهري استنفر لذلك طاقة المفارقة والإيحاء والإيماء والرمز والإشارة، والتعريض والمواراة وغيرها على تخالف هذه الدلالات في الدور والاتجاه والعمل الجمالي؛ ولعل قصيدته " تحريض "، تمدنا بشيء من هذا التوجه الذي يمنح ويسلب محرضاً على البحث عن الوعي الحقيقي بحثاً ذاتياً من قبل المتلقي ، فيقول :
سوف أبتدئ  قصيدتي
                      باهتة باردة ..، لا طعم لها
                       لا تنشر وعيا في الناس ولا تحريضا  
لكنى
      سوف
             أنهيها
                     كذلك
فلفظ كذلك يجب على المتلقي تحديد اتجاه دلالته، هل تدل على فعل بصري غير مذكور لفظاً في القصيدة يحل شفرته تحويل البنية النصية إلى شكل درجات سلم ترتقي بالمتلقي إن هو أعاد النظر إليها بعد انتهائه من قراءتها ؟ ؛ أم تدل على تدوير الدلالة بما يعني الثبات والتحجر، وهي دلالة ضد الوعي بهذه الطروحات، فلما كانت الحالة أن الشاعر يعي الاتجاه الذي يستهل به قصيدته فهو حريص بالضرورة على التغيير والتحريض، كان الأقرب أنه يريد البعد البصري المتحقق في درج الرقي؛ وهذه صورة تدعمها صور العمق الذهني في قصائد الديوان بعامة، تلك القصائد التي يتجه بعضها صوب المجتمع وبعضها صوب الجنس وبعضها صوب الذات وبعضها صوب السلطة ... إلخ ، ومنها قصيدة " أمة "، التي تقدم وجهة نظر الشاعر في أمته العربية ، وهي قصيدة تحمل جزءاً من رسالة الشاعر التي ضمنها العديد من قصائده التي تطرح رؤيته حيال الحال العربي الحاضر :
إنها أمة
تُقعي على زبد
في الصباح
وتقعي على زبد
في المساء
وتبحث عن قاتلٍ لأبيها
إنها أمة من هباء
كما قدم الشاعر علاقته بالمرأة في عدد من قصائده من بينها قصيدة الرغبة وقسمة وغيرهما لكنني أكثر ميلاً إليهما، يقول في قسمة :
كتبتُ قصيدةَ شعرٍ
أما هي ...
فقد أكملت السهرةَ بمكانٍ آخر  !!
أما أعمق أفكاره فتلك التي مالت إلى عرض صورة لعلاقة الشاعر بالفلسفة ، ما بين الفلسفة الذاتية كما في قصيدة " أفتوني " :
خوخة
غرقت في حوض أسبانيا
هل يطهرها الماء
لكيما يأكلها جائع أزهري ؟!!
وهي تطرح قضية ملبسة يستفتي فيها الشاعر أهل الفُتيا بسفسطة مُلبسة ، غير أن خوخته الإسبانية تظل عليه حراماً ما لم يطهرها بحقها ، فهو أزكي لهما معاً ؛ وهناك الفلسفة المجردة ، كما في قصيدة " أعطني"
– أعطني بعض التصوف ...
– غاية أم وسيلة ؟
– لا تتعب النفس في عقم التفلسف
 وأعطني بعض الهدوءْ !!
هنا يصل الشاعر في تركيبة فكرية يسيرة إلى أن العمق الحقيقي والهدف الأهم في الأشياء هو تحقيقها لوقائع عملية ملموسة على أرض الواقع لا الإيغال في تفريعاتها النظرية وطرح جدلياتها ، فالتصوف الحقيقي الذي يريده الشاعر لا يشغله اتجاهه الفكري وهدفه الذي يغلف مقاصده ، غاية أم وسيلة ، وإنما يريد جوهر التصوف وهو التأمل الذي يعين عليه الهدوء .
وثمة قضية مميزة يطرحها الديوان من خلال طرح الشاعر لرؤيته تجاه علاقته بذاته وعلاقته بأصله ، أمه وأبيه ، أما أمه فعلاقتها به ذات جذر سيء الاتجاه ، يحمل أصداء غير محببة من الماضي :
فذكرت أمي مرة تقول لي :  حمارا
فاصطنعت فيما  حولنا اصطبارا
لذا كانت علاقته بها علاقة تخارج عاطفي، وهو ما يدلنا على الشكل الذي تطورت إليه عندما دخل في مرحلة الفتوة، حيث صارت علاقته بأمه مرتبطة بعلاقته مع النوع الآخر فهي في علاقة ثلاثية الأطراف غالباً، إذ هناك أخرى دوماً لأمه دور تؤاخذ عليه أو تحمد ، مهمشة على الأغلب أو مؤاخذة :
قمر ... يقسم لوعتي نصفين
 نصف لذاك البحر
 ونصف سوف أسأل عنه أمي
 في الجنوبْ !!!
فأمه في علاقته بالأنثى تقف في موطن الحائل الحاجب العائق الذي لا يريده ، فهي في موضع المساءلة هنا ، وفي قصيدته "كأن " ها "  حقيقة"، تتجاوز الحيلولة إلى الوهم الفاعل فهي تتوهم وجود علاقة وتؤاخذ ابنها بشأنها :
أمي
هي التي توهمت
علاقة  حب 
كأن  "ها "  حقيقة 
ويقين  مطلق 
مما يضطر ذلك الابن المذعن إلى إخفاء حبيبته داخل القصيدة ، لكن ذلك لا يتم إلا بعملية قطيعة حقيقية بينه وبين وجدانه ، إذ يضطر إلى إخراج حبيبته من تفكيره ومن تفكير أمه ، لكي يحافظ عليها داخل القصيدة، المكان الوحيد الذي تنعم فيه حبيبته بالانفراد بالسلطة دون مزاحمة من أمه :
حاولت أن أخرج حبيبتي  مني
ومن أمي    
لكي تكون في منطقة التجريد
وحد" ها " في القصيدة
وحدها
إنها الصورة التي ارتضاها لعلاقته بالأنثى تلك العلاقة التي تحول أمه دون تحققها ، وهو يظل طائعاً لها ، للحد الذي يدفعه لنسبة الحيلولة إلى غيرها :
توقفني سمر
 فيما بين الله وأمي
فأعود إلى سمر
أما علاقته بأبيه فهي أخف وتيرة من احتدام علاقته بأمه فهو يشعر بشيء من القربى بينه وبين أبيه، إذ يحمل دمه نار أبيه ، فهو يحمل ملمحاً من ملامحه :
فوجئت ...
 أن  دمي  يستقل 
بنار  أبي 
أن  دمي ليس عذبا
ويحفل ديوان ( روحي طالعة بالقصيدة ) بمستويات متعددة من الطرح تفتح آفاقاً لمستويات منوعة من القراءة ، كلها تشير إلى أننا أمام خبرة شعرية مقدرة وشاعر قدير ، كما أننا نعلم أنه على الرغم من قيمة ما تطرحه هذه المجموعة الشعرية من تجارب شعرية ذات قيمة في التاريخ الشعري للشاعر القنائي محمود الأزهري ، غير أن قدرته الفنية والشعرية تجاوزت تلك المرحلة إلى فضاءات أخرى ، من خلال دواوين شعرية بعضها نُشر ومنها ما ينتظر .

شاركه على جوجل بلس

عن جريدة النداء المصرية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق