يقف علم الدين - الولي- على شاطيء البحر
مرتديا جلبابه الأبيض الطويل وعباءة فوق جلبابه تغطي جسمه الزابل النحيل وعلى رأسه شال يغطي رأسه ومنسدل علي
منكبي، يقف في غير انحناءة يرنوا إلي البحر ويفتح زراعيه وكأنما يحتضن النسيم الذي
يبدو أنه كان غائبا عن ناظريه لفترات طويله - فترات إنشغاله في عمله فهو داعية
متفرغ وهو زاهدُ - فهو دائمَ الزيارة
للبحر وهذا المكان تحديدا والذي يمتليء اخضرارا وأشجار البرتقال من حوله في كل
مكان ..وكأنّ روحه متعلقة بهواء البحر وباخضرار الزرع ، يقف ساعات يحدث البحر
وكأنهما صديقين ألفا العزلة والوحدة ..
علم الدين في أواخر عقده السابع الذي ملئه
انشغالا بالعلم ومازاده الوقت إلا زهداً وتقوي ... وفي لحظات تأمله يرنوا ببصره
إلي السماء ويرفع يديه يناجي ربه فتسقط عباءته أرضا فلا يكترث لها ، ثم يدير ظهره
للبحر متجها بوجه ناحية المشرق وكأنما يمم وجه ناحية القبلة ، تراه من بعيد تهابه
ثم تدنوا منه فيمتليء قلبك بحبه ، فله روح مرحه في غير إسراف ولا تفارق وجهَهُ
ابتسامتُهُ وقف يناجي ربه وكأنما انقطعت
صلته بالأرض ليتعلق قلبه برب السماء
-
يارب
-
ياالله
...
-
سيدي
الهي ومولاي ..
-
ما أنا
في خلقك ؟
-
وما
حاجتي في ملكك ؟
-
وما
حاجتي في قدرتك ؟
ثم أطرق في صمت طويل وكأنما يستكمل مناجاته
سرا كي لا يطلع عليها بشر ولا ينقلها عنه طير أو شجر ، ثم تدارك نفسه عند لاح له
أشباح أصدقائه يأتون من بعيد ، التقط عباءته ونفّضَ ما علق بها من تراب ثم وضعها
علي كتفيه ثم استهلل وجهه فرحا بأصدقائه مُرَحِبَا بالجميع يُقَبِّلون يديه ثم
أجلسهم فالوقت يقترب من الجمعة وهو خطيبهم
اليوم ، والجيمع في انتظار الأذان ليسمعون وعظه وكلهم يفتح قلبه قبل أذنيه ولإن
مولانا علم الدين يألف هذه الطبيعة ويقضي أجمل أوقاته بين الحقول آثَرَ أن تكون
الصلاة في هذا الجو البديع .. وهنا يسمع صوت الأذان قادم من مسجد قريب فينادي على
أحدهم أن يأذن للجمعة .
وقف حامد – صديق قديم جاوز الخمسين بسنوات
خمس هو إلي القصر أقرب منه إلي الطول ، رِبْعَة ، يتكلم بملاء فيه غير أنه يكرر
كلامه كثيرا للتأكيد على سامعه ، أكثر ملازمة للولي عن غيره من أقرانه ، يمشي كأنه
ينكفئ ، سريع الفهم والحفظ – يأذن للصلاة ثم
جلس ...
ووقف علم الدين يحمد الله ثم يثني عليه
ويصلي علي رسوله وصَحْبِهِ وما إن بدأَ حتي جاء بلبل يقف فوق رأسه على غصن شجرة
قريبة وما سكت عن شدوه حتي سكت . وكأنه أتي يسمع مولانا سيدنا الولي متأثرا بروحه
وريحانه ..
ثم انتهت الصلاة وجلسوا قليلا ثم أخرج علم
الدين طعاما قليلا من حقيبته، وكان على قلته يكفي للجميع إنها بركات مولانا ليسع
الجميع بعلمه وكرمه ، فأقبلوا علي الطعام في نهم يأكلون ، فطعامه طعامُ طُعْمٍ
وشفاءُ سُقُمٍ ... فأكلوا ثم ساروا معه
آيبون من رحلتهم معه يتجاذبون أطراف الحديث يضحكون ويهللون ..
-
حامد :
بارك الله فيك يا مولانا هذه الخطبة لا تقال إلا في الحرم أو في عرفات وليس في هذا
العدد القليل
حاول مولانا رفع معنويات صاحب المديح قائلا:
-
لو لم
تقال هذه الخطبة إلا لك لكفي
يتدخل حكيم - مريد أخر لمولانا - في منتصف
الستينات من عمره في الحديث محاولا إثبات وجوده علي ساحة النقاش الذي احتدم وكأنه
صراع
-
ما بال
الساحات خالية من الدعاة والمفكرين وأصحاب الرأي ؟
وأشار مولانا بيديه ممتعضٌ يقول:
-
وما عسانا
أن نفعل يا حكيم ؟ أنت أهلٌ لتأُمّ الناسَ يا حكيم ولكن شَغَلك عملك في البنك عن
الدعوة
-
حكيم:
لستٌ أهلٌ لذلك يامولانا ولم أخلق لهذا العمل .
وهم يمرون علي جماعة من الناس يلقون عليهم
السلام فيرفع أحدهم صوته مناديا:
-
كم سعر
الدولار اليوم يا حكيم ؟
ويطول النقاش بين شد وجذب ثم يلتفتٌ مولانا
علم الدين إلي عارف - المريد الأكثر جدلا في مريدي مولانا - فيسأله عن رأيه في النقاش المحتدم
..
وعارف هذا رأيه صادم دائما للجميع وكأنه خلق
ليعارض ويسير بالحدبث إلي طريق لم يألفه أحد منهم
-
عارف:
أظن يا مولانا أن تشغل نفسك بحالك أفضل ولن ينتفع أي من الناس بما تقول إلا من
يريد العلم ويسعي وراءه ، العلم لا يسعى لأحد ولا يَطْلب أحد ، يطلبه الناس . فعزز
علمك وانشغل بحالك ...
أردف مولانا قائلا: نعم
تدخل منتصر - المريد الأكثر التصاقا وتأسّيا
بمولانا - في الحديث منزعجا وموجها حديثه إلي عارف
-
منتصر:
ولكن هذا دور العالم وعليه أن يسعي لذلك لا يدخر جهدا ولا ينتظر نتيجة لسعيه ..
وسار الحديث على هذه الوتيرة حتي عاد كل
منهم الي بيته ودخل علم الدين إلي بيته ينفض عن نفسه أثار الطريق والتعب ، مستأنسا
بأهله ، فأعدوا له طعام الغداء ، ودخل الي حمامه فاغتسل وترك الجميع لينام قليلا ،
فقد اعتاد أن ينام في هذا الوقت دخل غرفته لينام ، وأوصته زوجته أن يغلق محموله كي
ينعم بنوم هادئ ، ولم يستجب مولانا لوصية زوجته فلم يعتد أن يغلق بابه في وجه أحد
ولا تليفونه أيضا ..
وإذا بكل واحد من أصدقائه يتصل به ، ما إن
ينتهِ من واحد حتى يتلوه آخر ، يريد كل
فرد منهم أن يستأثر بالحديث مع الرجل وكأنه له وحده أو ملكية خاصة به ، ثم ينقد كل
منهم سلوك الأخر مستدركا عليه فعله ، وعلم الدين يُقَوِّمُ سلوكياتهم ويوجهها
وجهتها الصحيحة يدافع عن هذا ويرجح عقل هذا أمام تسفيه كل منهم لأفكار الأخر
ولعقله..
ثم استجاب الرجل فور انتهاء المكالمات وأغلق
تليفونه ، فلم يبق سوي قليل من الوقت علي صلاة العصر ليستريح قليلا قبلها .. نام
الرجل وكلتا عيناه مفتوحتان وكأنما خلص من الناس إلى عزلته التي يألفها لكنه لم
يعد يقوي على شئ فنام من فوره .
يُأَذّن لصلاة العصر ، ثم يردف المأذن معلنا
وفاة علم الدين وتشيع الجنازة بعد العصر . ويفزع الجميع من الخبر ، ما الذي حدث ؟
وكيف توفى مولانا ؟ وأصدقاؤه في الصفوف الأولى يصلون عليه ثم يحملون نعشه إلى
مثواه الأخير . وقفوا طويلا بعد رحيل الناس عنه ، ثم انصرفوا . وبعد أيام وجدوا
الوصية تحث وسادة علم الدين أن يقتسم ميراثَه أصدقائُه وأقبل الجميع في عجل لم
يتخلف أحد .
يقف أحد أقارب مولانا يقول:
-
تعلمون
أن علم الدين يحبكم جميعا ، وتعلمون أنه لم يخلف درهما ولا دينارا حتى هذا البيت
ليس له فهو لم يكن حريصا على أن يمتلك بيتا .
صاح حكيم :
-
وماذا
سنرث إذا ؟ كتب ! يقول مستنكرا
-
خزائننا
ملئى منها ولا نريد المزيد ، أما نصيبي فعارف أولى به . ثم انصرف
قال منتصر مستدركا علي الرجل :
-
وأما
عباءة الرجل وشاله وجلبابه ومسبحته فلي .. وأخذ ما يريد ثم انصرف
وأما حامد فانتظر حتى يري بقية التركة
الخاصة بمولانا ، قال الرجل:
-
لم
يتبق إلا مكتبته ومذكراته ومصحفه هي بينكما حامد وعارف
صاح حامد:
-
ليس
لدي مكان يسع الكتب وأنا أتنازل عنها لعارف ثم انصرف أيضا
نظر الرجل إلى عارف قائلا:
-
كل قد
أخذ ما يريد وانصرف الجميع ، لم أسمع منك يا عارف
-
إنها
تركة ثقيلة يا سيدي ، و ما حسب الرجل أن يورث إلا العلم . "فالعلماء ورثة
الأنبياء" وهو عالم جليل
أردف الرجل قائلا:
-
بارك
الله لك يا عارف هي لك إذا
-
علم
الدين .. علم الدين الطعام والمغرب أوشك
على الأذان
قام علم الدين من نومه مذعورا مما رأى ، لم
يكن حلما هذا أبدا ولم يكن كابوسا إنما هي الرسالة التي قالها له عارف واستقرت في
نفسه..
0 التعليقات:
إرسال تعليق