.

.

د.يسري عبدالغني يكتب عن : مكونات الثقافة المصرية في اوائل القرن العشرين وما اصابها




كتب إبراهيم عبد القادر المازني كلمة جميلة قال فيها : "لا أحتاج أن أقول أني أكتب للأجيال المقبلة ، ولا أطمع في خلود الذكر ، وهل ترى ستكون هذه الأجيال المقبلة محتاجة كجيلنا إلى هذه البداية ؟ ، أليست أحق بأن يكتب لها نفر منها ؟ ! ، أمن العدل أم من الغبن أن نكلف بالكتابة لجيلنا ولما بعده أيضاً ؟ ! ، تالله ما أحق هذه الأجيال المقبلة بالرثاء إذا كانت ستشعر بالحاجة إلى ما أكتب!" .
وكان المازني معاصراً للأديب المترجم / محمد السباعي (1881 ـ 1931) ، وكلاهما من أصحاب الثقافة السكسونية ، وينضم إليهما أو معهما كتاب عمالقة من أمثال عباس محمود العقاد ، وعباس حافظ (توفى 1959) ، بينما يمثل طه حسين هذا اللقاء الحضاري بين الثقافتين العربية والفرنسية .
وكانت في مصر ثلاثيات فكرية وأدبية مهمة ، منها ثلاثية : عبد الرحمن شكري ، والمازني ، والعقاد ، ومنها ثلاثية : محمد السباعي ، وعباس حافظ ، وحسين شفيق المصري (1882 ـ 1948 ) ، ولكن ثلاثية : أحمد ضيف (1880 ـ 1945 ) ، وطه حسين ، وزكي مبارك ، وهي الثلاثية الفونو / عربية لم تلتئم ولم تتكون ، بل انفرط عقدها وتمزقت وتفرقت ، بسبب الطموح الخارق لطه حسين ، الذي جنى على إثنين من عباقرة الأدب في الجيل الماضي ، فجعل الأديب الناقد / أحمد ضيف يتكلم مع نفسه على الرصيف ، وجعل الدكاترة / زكي مبارك يجلس على مقهى على الرصيف أيضاً .
وتمزقت ثلاثية شكري والمازني والعقاد ، ثم مات زعيمها وقائدها المثقف الكبير / عبد الرحمن شكري مجهولاً في شقة متواضعة بمدينة الإسكندرية ، وهو أستاذ المازني والعقاد باعترافهما ، وقد تنكرا له في بعض الأوقات لأسباب لا زالت مجهولة حتى يومنا هذا ، رغم اجتهادات البعض في الكتابة عنها ، مما مزق قلب شكري وعواطفه ، ثم عاد اإلى الاعتراف بأستاذيته ، ولكن بالطبع بعد فوات الآوان .
وخصام الأدباء لا تعرف أسبابه ، وقد يكون الحب الجارف من أسباب الخصام ، وقد تكون الغيرة وهي أشد فتكاً من الحب ، ومن المحال أن نتهم أصحاب النفوس العظيمة من كبار الأدباء بالحقد ، ولكن قد نتهمهم بالغيرة الفتاكة .
ولكن ثلاثية : محمد السباعي ، وعباس حافظ ، وحسين شفيق المصري ، كانت تشرب من كأس واحدة ، فلم تصل إليها الغيرة القاتلة ، بل ظلت تشرب من الكأس الواحدة حتى نهاية العمر ، وهذه هي الحقيقة الأولى التي تلفت النظر ، فقد كان فرسان الأدب الثلاثة لا يفترقون ، وكانت لهما جلسة ممتعة في مقهى رجل بلغاري عجوز على جانب محطة باب اللوق ، وما زال هذا المكان موجوداً إلى الآن .
كانوا يحبون ركوب عربات الحنطور في عودتهم إلى بيوتهم بعد السهرة ، ولهم جلستان : الأولى في فترة الظهيرة ، والثانية بعد الغروب ، وهم من أوائل الأدباء اللذين يجلسون للحديث والحوار في فترة الظهيرة ، وتعلم منهم كثيرون هذه الجلسة الممتعة .
العجيب الغريب هو أن محمد السباعي وعباس حافظ كانا من كتاب الفصحى البليغة الراقية ، بينما كان حسين شفيق المصري من كبار الفصحاء في اللهجة المصرية العامية ، وهو الغريم العتيد لمحمود بيرم التونسي ، أشهر من كتب العامية المصرية .
وإذا رأيت الثلاثة : السباعي و حافظ و المصري ، فسترى في وجوههم وأجسامهم وملامحهم وتصرفاتهم ، دماً شركسياً يجري في عروقهم ، وأرستقراطية فكرية تلمع في عيونهم ، مع أن شفيق المصري كان يتلمس طريقه بعصاه ، وعندما أصبح رئيساً لتحرير مجلة (الفكاهة) ، ثم مجلة (الاثنين) ، ومجلة (الدنيا) وكلها مجلات صدرت عن دار الهلال المصرية ، ومن أراد التعرف عليها فيطلع على بعضها في قسم الدوريات القديمة بدار الكتب المصرية.
كان شفيق المصري يغمس الورق في الماء ليكتب عليه بقلم (الكوبيا) كلمات قليلة تتصدر هذه المجلات كافتتاحية لها .
وفي الواقع أن هذا الرجل من الظواهر العجيبة في تاريخ الأدب العربي بوجه عام ، والأدب المصري الحديث بوجه خاص ، فقد صرف نصف بصره في قراءة الأدب العربي القديم ، ثم أنفق النصف الآخر في كتابة أدب جديد لا هو عامي ، ولا هو عربي فصيح ، ولكنه براعة في المزج والامتزاج بين الفصحى والعامية .
القصائد والمعلقات التي كتبها شعراء العصر الجاهلي ، حورها ودورها وسماها (المشعلقات) ، وهي من أظرف ما كتب في الأدب العربي الحديث ، ولم يتنبه أحد إلى ذلك .
شفيق المصري يحول معلقة الشاعر الجاهلي المتمرد / طرفة بن العبد البكري التي يقول في مطلعها :
[
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد ]
يحولها إلى ( مشعلقة ) يقول في مطلعها :
[
لزينب دكان بحارة منجد
تلوح به أقفاص عيش مقدد ]
كما اشتهر حسين شفيق المصري بأنه من أعظم كتاب الأدب الشعبي في عصره ، وهو صاحب المسلسلات المكتوبة الشهيرة التي كان من أهمها : (الشاويش / شعلان عبد الموجود) ، و (حديث خالتي أم إبراهيم) .
كان المصري يسكن في بيت على باب (حارة السقائين) بالقرب من حي عابدين في القاهرة ، كان لا يحلو له العيش إلا مع البسطاء من الناس ، يستمع إلى أحاديثهم ، واستمع إلى آمالهم وأحلامهم ، ويتنصت إلى كلمات النساء في الحواري والأزقة ليحولها بعد ذلك إلى حوار أدبي شائق بأسلوبه المبدع .
كان يعرف الشعر وأسراره وصنعته معرفة تامة كاملة ، حتى أن أمير الشعراء / أحمد شوقي طلب منه أن يعد دراسة موسعة عن أوزان الشعر العربي المهجور ، أي الأوزان التي لم تستعمل كثيراً ، ليستخدمها شوقي في قصائده ، وبالفعل كتب حسين شفيق المصري هذه الدراسة وأعطاها لشوقي ألمع شعراء العصر الحديث ، قبل أن يؤلف مسرحياته الشعرية الشهيرة ، ولعل هذا كان هدف شوقي من الإحاطة بأوزان الشعر العربي المهجورة .
هذه هي شخصية شفيق المصري الغريم الأول لمحمود بيرم التونسي ، والذي لم ينشر له سطراً واحداً في المجلات التي كان يرأس تحريرها ، بسبب خطورة بيرم الأدبية على أدب حسين شفيق المصري .
Top of Form
أعجبني
أحببته
هاهاها
واااو
أحزنني
أغضبني
Bottom of Form

شاركه على جوجل بلس

عن جريدة النداء المصرية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق