"القلب وحده لا يكفي" قصة قصيرة لـ محمد مختار
ورغم ذلك فقد كان ديدنه فالحياة وقائده في جميع أموره.
فقد نما في كنف الحب ارتوى به قلبه ونمت به عقله واكتست به حياته حتى صدق أن الحب طريق
للحياة وأن الحياة الحب والحب حياة فصنعها من الحب وأسسها على الحب.
أحب نفسه
فرسم لها طريقا ينتهي بها إلى أقصى درجات الاكتمال. وأحب جسده فرسم له طريقا ينتهي
به إلى أقصى درجات الجمال وصدق فيما اعتقده وآمن به.
أدام القراءة والاطلاع حتى صنع لنفسه عقلا لا يضاهى،
وأدام الذهاب إلى صالات الرياض، فصنع لنفسه جسدا لا يبارى، أحب أيامه كلها فجعلها سلسلة
متصلة من المكاسب التي لا تنتهي فمن صالة الرياضة إلى مكتبه البلدة.
وأحب أكثر ما أحب أيام الربيع حيث تتفتح الأزهار
وتكتسي الدنيا بجمال يشعره بعطش شديد للحب.عطش لا يرتوي أبدا.
حتى كان
ربيع تفتحت أزهاره وان أوان ارتواءه من عينين سوداوين ساحرتين رآهما ترنوان إليه في
كل غدوة أو روحة من صالة الألعاب الرياضية
التي كانت تسكن فوقها. تعرف إليها بالنظرات. أرسل الكثير من البسمات والتحيات وردت
هي بالمثل حتى لقد حسب أن الطريق أصبح معبدا ولكن كيف وهو لا يعرف عنها إلا نظرة وابتسامه.
ولكنه رآها بأذنيه وعرف عنها الكثير، عرف عائلتها وكيف أنهم ميسوروا الحال، ولكن إيمانه
بالحب أخفى عنه حقيقة الحياة.
فتقدم لأبيها
طالبا يدها معتقدا فيها وفي حبها، وظل على اعتقاده حتى جلس أمام والدها الأبيض الوجه المنفوش الشعر الأكرش الذي ما لبث
أن أشعل سيجارته في كبر ونفث دخانها في وجهه ونفث معه سؤاله...من أنت؟!...فقال له من
هو؛ شاب يملأه الطموح يدرس في السنة النهائية في كلية التجارة ويعمل في شركة استيراد
وتصدير ليعول أمه ونفسه بعد وفاه أبيه.
وعندما نفث
سؤاله الأخر عما يتقاضاه من عمله اخبره أنه يتقاضى أجرا معقولا يكفيه ليحيا حياة كريمة،
سكت الرجل وطال سكوته حتى تمناه الكلام، ثم نفث الرفض في وجهه مع أخر أنفاس سيجارته
التي أطفأها في المنفضة، لم ييأس لا ولا سلم، فقد كان إيمانه بالحلم أقوى منه بالحقيقة
فلاحقه بصوت عال: أنا أحبها فالتفت إليه مغاضبا فأكمل بصوت خفيض: وهي تحبني
أجابه في برود: لم يعد هناك مكان للحب وصفق الباب
خلفه، فقال في شبه انه: انا احبها وقام..
ما أسوأ أن يكفر الإنسان بعد إيمان، أن يكذب بعد
تصديق، لقد تهدم بداخله.
كل ما بناه عبر سنوات عمره الثلاثين، وأخذت ترتفع
مكانه أشياء لم تكن موجودة من قبل، أمال ماتت والأم ولدت دفعته أن يهجر نفسه و حياته
والبلدة كلها إلى حيث يعمل ويقيم وأخذت تنازعه رغبتان رغبة في الانتقام ورغبه في الثراء
وتلك الأخيرة جعلته يعمل ستة عشر أو سبعه عشره ساعة دون أن يتوقف، حتى استتب له الأمر
وبدأت تظهر عليه مظاهر الثراء التي كان يسعى لتحقيقها ولم يتوانى فأسرع بالعودة إلى
بلدته القديمة متسترا برغبته في افتتاح مكتب جديد له ليوسع دائرة عمله ويساعد الشباب
في بلده لكن الحقيقة انه أراد أن يشبع رغبته في الانتقام وشرع يؤسس بيتا جعله من أفخم
بيوت البلدة في بنائه وأثاثه. وتلا ذلك أنه افتتح مكتبا يزاول من خلاله نشاطه التجاري
وتعمد أن يفتتحه بالقرب منهم ليروه في غدوه ورواحه بعربته الخاصة
فعل كل هذا وملئ نفسه الرغبة في الانتقام أما عقله
وقلبه فقد طمس عليهما إلى الأبد أو إلى حين.
ولم يكن ذلك مستغربا من شخص رفض الحياة وفضل الموات.حتى أعطاه القدر فرصه للحياة لكنه آبى فعندما
أعلن المكتب عن حاجته لموظفين وتقدم العشرات لشغل الوظائف المختلفة.
كان من بين المتقدمين فتاه طلبت شغل وظيفة سكرتيرة
ووافق هو على تعيينهم جميعا وبدأت عجله العمل تدور حتى صادف أن رآها وهو يغادر مكتبه
ذات يوم.
فوقعت من نفسه موقع السوء لاعن دمامة أو رثاثة، لكنها
كانت سميه حبيبته السابقة في كل شيء حتى في اسمها الذي عرفه بعد ذلك من ملفها، اخذ
يزعجها بتصرفاته، يهينها بكلماته، لقد رآها هدفا سهلا يفرغ فيه كل آلامه، فاسقط عليها
كل مشاعره السلبية.لكنها لم تحتمل وأخذت تلاحقه تارة بنظرات حزينة فيهرب وتارة بأسئلة،
فيواصل الهروب.
فلم تحتمل ذلك واستقالت رغم حاجتها للعمل. ومرت الأيام
ودوران عجله العمل يمنعه من التفكير بنفسه فهو في سباق مع الدنيا يريد أن يسبقها بل
ويتفوق عليها، لكن ما الذي جعله ينتبه لعدم وجودها، ألانه، لم يعد يراها أم لأنه افتقدها.
تحرك قلبه أخيرًا من أجل أحد، أعاد كما كان بحنانه
وحدبه على من حوله، هو القدر يلبيه وينقذه
مما هو فيه ويعيده إلى رشده، هو القدر يقود خطاه إلى بيتهاـ يصعده السلم الحلزوني المظلم،
حتى يصل إلى شقتها وتفتح له وهى شعثاء الشعر غبراء الثياب تتسع عيناها عن أخرهما فلم
تكن تتوقع أن تراه، تسمرت مكانها لحظات تمد ذراعها فتدخله، تملأ عيناها منه، تحاول
أن تتحدث فتفشل ثم يخرج صوتها مبحوحا من اثر المفاجأة لتسأله عما جاء به.فيجيبها بصوته
الذي تحب سماعه: أتقبلين الزواج مني. فتعود عيناها للاتساع وفي اندهاش تقول: ماذا؟أ
فيعيد قوله
بانجليزية لطيفة Marry Me
يطلب يدها من والدها. ذاك الرجل السبعيني ابيض شعر
الرأس متغضن الوجه بفعل التجاعيد ضئيل الجسم محدودب الظهر الذي اقسم انه لم ير مثله
من قبل فقد جعله يعيش الماضي بفعل ألان ويرتحل بين موقفين متشابهين مختلفي الأصوات،
احدهما يفيض بالغلظة فيأمر ويشترط ويرغى ويزبد في لاشيء ثم يرفض وملئه كبر وعنجهية.
والأخر يفيض رقه وحنوا، يقبل تزويجه ابنته ويرفض
حديثه عن نفسه، لا طلبات، لا شروط، فكل ما يرجوه منه أن يحسن معاشرتها ولا يسئ إليها
فهي وحيدته التي لم ينجب سواها. وبكل أريحيه يضع يده في يده ليقرأ الفاتحة. وأوشكت
النهاية على الاقتراب.
وهم بها فهمت به لولا أن رأى برهان قلبه في حجب ألقاها
على عينيه فارتد بصيرا يرى ولا يرى يسمع ولا يسمع يرى الأخرى تلك الصابرة في صمود المحبة
في صمت.
وماهي إلا هنيهات حتى انقشع الحجب وانجلت الحقيقة
فالقاها عنه كشيء قذر وشرع في الصراخ بجنون معلنا أنه لا يراها ولا يسمعها فليست هي
من يرغبها بعد ما كان من أمرهما معا فقامت من رقدتها فانكسار بعد انتصار ولملمت أشلائها
وخرجت تجر أذيال الفشل والخيبة. واتصل هو بالأخرى ليتابع معها بقيه ترتيبات حفل الزفاف
وقد أيقن أن للدنيا حسابات أخرى... ( تمت)
0 التعليقات:
إرسال تعليق