د. خالد عبد الغني يكتب: إسقاط الذات في حائط غاندي
مجلة عالم الكتاب عدد
ابريل 2017
إن الحديث عن الملامح الفنية وتطور
العمل الروائي لعزة رشاد أصبح أمرا يجب أن يتجاوزه نقاد الأدب عند الحديث عن
أعمالها الأخيرة (شجرة اللبخ - وحائط غاندي) فمنذ روايتها الأولى (ذاكرة التيه)
نجدها وقد أثبتت قدرتها الإبداعية التي مالبثت أن تأكدت أكثر بحصولها على جائزة
الدولة التشجيعية في القصة القصيرة عن مجموعتها (نقطة ضوء) والسؤال هنا: ما هو
الواجب ذكره كي يدرسه النقاد إذا؟ واتصور أن عليهم دراسة الجوانب الكيفية في
أعمالها من قبيل قضايا المرأة والتكوين الفكري لديها وكفاحها ضد مجتمع الجهل
والأمية والقرية وعلاقة كل ذلك بملامح الذات المبدعة سواء في الرواية أو في القصة
القصيرة، هذه مجرد أمثلة لا أكثر.
أما قضية الخيال العلمي لدى عزة رشاد
فهي لم ترد أن تكتب على غرار ما كتب مصطفي محمود في روايته "رجل تحت الصفر"
أو نهاد شريف في كل أعماله تقريبا حيث اعتمدا على رؤية مستقبلية للعلم وتوظيف تلك
الرؤيا في العمل الأدبي من أجل مستقبل أفضل للإنسان.
وفي هذه المجموعة (حائط غاندي) نلاحظ
بروز الخيال العلمي في قصص كثيرة من أبرزها قصة (حرير منزلي) وقصة (عفاريت
النزلة). وهي قضية لا تنفصل عن التكوين الثقافي والمهني لعزة رشاد ذاتها فهي طبيبة
أطفال ولابد إذا من اهتمامها بالخيال العلمي وواقع المرضى ومعاناتهم ومحاولات شفائهم
وقد تجلى ذلك في قصة "حائط غاندي" تلك القصة التي انتصرت فيها مفاهيم
الرحمة والعطاء والبذل على غيرها من القيم حين فوجئت بطلة القصة الطبيبة بأحد
الصبية وقد خطف حقيبة يدها وعندما جرى مسرعا دهسته إحدى السيارات المارة فقامت
البطلة بحمله إلى المستشفى وتدبير أمره وقد نسيت أنه منذ قليل خطف حقيبة يدها " قبيل بلوغها الأربعين تنازلت عن الحلم بعقل أينشتاين بعد رسوبها
في امتحان الدكتوراه للمرة السادسة، ولم تُعِد صورته إلى الحائط بعد نجاحها في المرة
السابعة، بل استكفت بأنها مازالت قادرة على استيعاب العلم قدر ما يتطلب العمل الروتيني
اليومي، كما عليّ قيادة سيارتها بتوازن مُرضٍ، وكانت تفتح باب هذه السيارة عندما أحست
بيدٍ تسحب حقيبتها المعلقة على كتفها، التفتت فكان الولد، وبيده الحقيبة، قد جرى ليعبر
الشارع، وقبل أن تتحرك أو حتى تصرخ رأت سيارة مسرعة تصدمه ثم تجري وتختفي؛ أسرعت خطواتها
حتى توقفت لتجد نفسها أمام صبي لا يتجاوز عمره السبعة أعوام، وبالرغم من غضبها العارم
فقد أحست بنظرتها حائرة _ بين حقيبتها التي يحتضنها الصبي بذراع مضمومة، بإصرار، إلى
صدره، وبين دمه الذي يسيل فوق الأسفلت _ وبساقيها تتهاويان، تجمدت لحظة ثم حسمت أمرها
وتحملت ألم ركبتيها وانحنت، حملتْ، بصعوبة، الصبي وسارت نحو سيارتها، وضعته على الكرسي
فيما ذراعه لايزال مثنيا إلى صدره عدا أن الحقيبة لم تكن موجودة، تحيرت لحظة: هل تنزل
لتبحث عنها؟ هل تدور بالسيارة؟ لكن رؤيتها لارتجافه وشحوبه جعلها تحسم أمرها، أدارت
السيارة بإتجاه المستشفى ثم... ابتسمت لغاندي (ص 60) " وهنا نعود للحقيبة
ودلالتها العميقة لدى عزة رشاد والتي سبق أن تناولتها في دراسة أخرى ولربما أشارت
الحقيبة هذه المرة إلى تعلق خاص برمزية أبعد مما ننظر اليه الأن. ثم ها هي في قصة
(جلد سلخته الشمس) تهتم ببتر أرجل الأطفال الذين يتم استخدامهم في أعمال التسول
وطرق علاجهم الشعبية بعد هذا البتر "
كان الصراخ قد توقف وتوقعت أن يظهر حسبو ويفتح الباب بين لحظة وأخرى، ويترك لنا العيِل
الذي قطع رجله قبل لحظات لنداويه. سيوصينا بمداواة جيدة:
_
بضمير. آه. علشان هناكل من وراه الشهد.
مال حسونة حتى كاد يقع فانكشف الأثر القديم برِجله، وبدا مثل
جِلدٍ سلخته الشمس، ص 97)".
وفي قصة (خوذة روميل) تهتم الكاتبة بقضية
الألغام الموجودة في أرض مدينة العلمين كأثر من أثار الحرب وما تحدثه من بتر
للأيدي أو للسيقان للأشخاص العابرين لهذه الأرض وتركيب الأطراف الصناعية لهم ،"يدلفون تاركين الرمال لأبنائها،
بألغامها أو ألغامهم التي دسوها لبعضهم البعض ومازالت للآن تنفجر وتطيِّر ذراعًا أو
ساقًا. تبتسم شادية للكاميرا وتقول: إحنا محظوظين. أنظر لرفاقها، بأطرافهم الصناعية،
ويدهشني زهوهم، يقولون إنهم ينعمون بمزايا لا يعرفها الكاملون
(ص 102)"، وما يشعرون به من ألم في موضع تركيب هذه الأطراف وهو ما يعرف باسم "العضو
الشبح" وذلك في قصة "قالت
شادية وهي تمسح وجهها إن ساقه "زوجها" تؤلمه. يفجعني وجهها.. كيف تغير وقبح؟
لكن ذهولي من العبارة أكثر: ساقه تؤلمه. _مكان الجراحة؟ تشير برأسها:لا، وتهمس: الفراغ
مطرح البتر. كيف يؤلمه والساق مبتورة؟ "أتساءل"، أسمعه يُقسم بأغلظ الأيمان
أنها تؤلمه وأن البروفيسور الاُسترالي أكّد حدوث الألم مع أغلب المبتورين، بموضع العضو:
الفراغ الذي كان يشغله قبل بتره، حيزه الافتراضي. يُقسم بتأكيد البروفيسور الكندي نفس
"السيندروم"، يستأنف نحيبه، فيما تولي شادية وجهها بعيدًا، ما اضطرني لتوديعهم.
(ص 103)."
وملامح الخيال العلمي في هذه المجموعة فتظهر
بوضوح في قصتين الأولي "حرير منزلي" وتحكي فيها الكاتبة عن معاناة إمرأة
يتساقط شعر رأسها فتنتبه إحدى بناتها لهذا الشعر فتزرعه فيأخذ هذا الشعر في النمو
من جديد ثم لمحت في ذهنها فكرة بيعه كبديل لتوقف أبيها عن تصنيع الحرير بعد موت
دودة القز وتعرض الأسرة للضائقة
الاقتصادية مما جعل الأب يغادر البيت صباحا ويعود في المساء وقد أهمل الزوجة
والبنات حتى وصل الأمر بأبناء المرأة بأنهما ، "إلا أن أبي لم يتوقف عن الخروج يوميًا من شقشقة الصباح حتى آخر
الليل، متخليًا عن اهتمامه بالبيت، ورعايته لماما ولابنتيه، يخرج من أجل جمع أوراق
التوت على أمل عودة الدودات، جمع الكثير ولم يتحقق الأمل، تكدست الأوراق حتى جفتْ على
أرفف المطبخ التي خلتْ من الطحين والأرز والزيت. ولكن بنفس فجاءة المأزق لاح الحل في
رأس ماما عندما سقطت شعرة في إصيص زرع وبدأت تنمو، وفوجئنا بخصلة سميكة من شعر ماما
آخذة في البروز من قلب الطمي. في البداية لم نفكر بأكثر من إعادتها لرأس ماما، لمكانها
الطبيعي "حتى نداري قرعتها التي تتسع كل يوم" لكن الرأس رفضت الشعر الجديد
وربما اعتبرته غريبًا لأنها أخذت على الفور تلفظه، الخصلة الثانية بزغت في إصيص النعناع
وكان لها رائحته، فاقترحت أختي فوفا أن نعرضها للبيع، ووجدنا إقبالًا هائلًا، وخلال
فترة قصيرة كان المستزرع من شعر ماما يعتمر رءوس أغلب نسوان الحي ثم زحف إلى الأحياء
الراقية، ثم المنطقة كلها بعد أن صففه شباب الكوافيرات في تسريحات مختلفة؛ كما أبدعنا
في زرع شعر ماما بروائح مختلفة "ياسمين، بنفسج، نرجس، ليمون..إلخ". (ص
84 و 85)". وكانتا تنزعان الشعر من رأس الأم عنوة واحدة تلو الأخري من أجل بيعه وقد ربحا من بيعه ربحا
وفيرا جعلهما يضحيان بشعر رأس الأم كله ولم يرحمها دموعها التي كانت تنزل بغزارة
والتي كانت تنزل مع كل شعرة من رأسها
"إلا أن المأزق تجلى
أمامنا فجأة، وهو أن شعر ماما الحقيقي يوشك على النفاد، لم تبق إلا عدة شعرات، جرف
نزع إحداها أكبر دموع ماما التي يصعب اعتبارها مجرد دموع. استوقفتني فوفا حائرة، مرتبكة،
وهي تحمل الدمعة الكبيرة في راحة يدها ص 84).
وأما القصة الثانية التى تجلى
فيها الخيال العلمي فهي (عفاريت النزلة) وفيها بعد انقطاع التيار الكهربائي عن أهل
النزلة بسبب تركيب أحد أبراج الهاتف المحمول "إلا
أنهم لاحظوا ازدياد الكهربية مع دق المزيد من أبراج الهواتف المحمولة فوق سطح الجمعية
الخيرية التي تتوسط مساكنهم.
_ولكن لمَ اختاروا نزلتكم؟ تساءلت.
لم يجب، فقط استطرد: الحق ان احتراق مواتير تلاجة عباس وغسالة
زين وتليفزيون رضا.. كدر عيشنا، (ص 90)" وبالمصادفة حين ضم أحد سكان
النزلة التلفزيون بذراعيه اكتشف أن التلفزيون قد وصلته الكهرباء وأصبح قادرا على العمل
وإظهار الصورة والصوت كاحسن ما يكون ولما علم أهل النزلة بذلك استدعوه كل ليلة من
أجل أن يحتضن التلفزيون بذراعية ويشاهدون برامج ومسلسلات الليل ويقدمون له وجبة
عشاء فاخرة وأغرهم ذلك بتشغيل الثلاجة والغسالة
"إلى أن لمس الواد "رُوقة" مصادفة تليفزيون "سمسمة"
"احتضنه بذراعيه لينقله من الصالة إلى الصندرة: مخزن الكراكيب.. فإذا بالجهاز
يشتغل من أول لمسة صوت وصورة كأنه موصل بالكهرباء "المضبوطة"، كأن ذراعيّ
روقة هما قطبي الموجب والسالب، هلَّلنا وتفرَّجنا حتى الصباح على تلفزيون "سمسمة"
وهذا ما صار يتكرر كل ليلة وقبل أن نفترق كنا نعمل أحسن واجب مع الواد روقة "شندوتش
متين أو حتة حشيش" لنعوضه عن النَشر بذراعيه طوال الوقت، ثم تطورت الخدمة فصرنا
نشغل الثلاجات والغسالات بقطبيه وقبل انتهاء المهمة يكون "واجبه" بجانبه.
كنت أختار له المشوي من أحسنها حاتي. أصل أنا خِبرة. وهو يأكل كفايته ويصر أن يعطيني
الباقي.. ألم أقل لك أننا نعيش أحسن عيشة!! (ص 91)".
حتي
تحول مع مرور الوقت إلى جثة هامدة لا يستطيع حراكا أو فعلا وتدهورت حالته الصحية
وأوشك على الهلاك" زي ما تقول الفولت
بتاعه فصل. الدكتور قال كل حاجة كويسة. بس ماعاد يقدر يشحن أي جهاز.
مد يده وقرَّب اللقمة من فمه وقبل أن يبتلعها:
_
وشوف رحمة ربنا. من ليلة ما يرقد روقة لا قادر يرفع يد ولا رِجل. تظهر الأمارة في الواد
يونس علشان النزلة ماتضلمش. (ص 92)".
0 التعليقات:
إرسال تعليق