.

.

عمرو على بركات يكتب:الجذور التاريخية لتصريحات الجماعة السلفية



عمرو على بركات يكتب:الجذور التاريخية لتصريحات الجماعة السلفية
تمطرنا الأخبار بتصريحات للجماعة الإسلامية عن مواقفهم المتشددة تارة، وتارة عن تراجعاتهم، وفتحهم لصفحة جديدة مع الأقباط والسياح، ومرة تأكيد السلفيون على إقامة الحدود، ومرة الإعلان عن نفيهم لتلك الإقامة، ويبقى الواقع متحولا بين تهديدات الجماعة الإسلامية، وتراجعاتها، مما يشيع أجواء من القلق المصحوب بالحذر الذى يلقى بظلاله على المرحلة التى تمر بها البلاد، وسعيها نحو التطلع لحياة ديمقراطية السلطة فيها متداولة، وقد يلقى بنا هذا الحذر إلى تقديم تنازلات من شانها أن تتبخر على أعتابها الثورة التى قام بها الشعب فى مواجهة الطاغية، ويصبح الخيار الديمقراطى على سبيل الاختيار من بين اقل الطغاة طغياناً، والتمتع بالسيئ، فالقادم أسوأ، ولذا لزم معالجة موقف الجماعة الإسلامية عموماً داخل إطاره التاريخى، بالوقوف عند تلك اللحظة التى تحولت فيها سلطة المعرفة الدينية إلى سلطة حاكمة فى تاريخ الفكر السياسى الاسلامى.
شرعية سلطة رجال الدين؟
رحم الله "أفلاطون" فهو أول من ربط بين حق صاحب المعرفة، والحكمة، فى ممارسة السلطة، وفتح الباب أمام التاريخ ليرصد تلك العلاقة الجدلية بين أصحاب المعرفة، ورجال السلطة، ومن خلف التاريخ يقف رجال النظم السياسية محاولين تأصيل شرعية سلطة رجل المعرفة فى ممارسة الحكم، ومن هنا أسس الفقهاء المسلمون العلاقة الشرعية لمن يمتلك المعرفة بحقه فى امتلاك السياسة، فالإمام"فخر الدين الرازى"(543هـ) هو الذى جمع بين فكرة السياسة كعلم، وفكرة ممارستها كتطبيق، وبات من علم الأصول أن يكون رجل الدين بما يملكه من مرجعية معرفية هو صاحب الحق الأصيل فى التلويح بالقوة، من اجل تحقيق مصلحة الجماعة التى لا يعرف حقيقتها إلا هو، وهو وحده القادر على تحقيق مقاصدها الشرعية، ومن أول لحظة تلى فيها الخليفة"عمر بن الخطاب" الآية القرآنية الكريمة {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} (40) سورة التوبة، من اجل تدعيم تنصيب الخليفة "أبى بكر الصديق"، تحول النص القرآنى لتحقيق أهداف سياسية، ثم حدثت بعد ذلك التغذية العكسية، فبات الإنتاج المعرفى لدلالة النص القرآنى من اجل تحقيق وظائف اجتماعية وسياسية، وبصورة منحت لرجل المعرفة الدينية المنتج لهذه الدلالات سلطة ظاهرة وخفية، منحته الشرعية بما يملكه من فضاء جماهيرى واسع للمؤيدين له عبر الولاء العام لفكرة الدين، فتحولت شرعيته من النص القرآنى نفسه، إلى شرعيته الذاتية المنتجة لدلالات النص، إلى شرعية ممارسته للقوة وهو بصدد تحقيق تطبيق عملى لإنتاجه المعرفى.
حقيقة الصراع؟
طالما كان لصاحب المعرفة الدينية وجوداً داخل الحراك الاجتماعى، فانه أصبح له قدرة على التحرك السياسى، ومن هنا وجد صاحب السلطة فى الحكم انه يجب أن يبحث له عمن يؤسس له موقفه السلطوى، ملتمساً إثبات مشروعية ممارساته السياسية، فوجد السلطوى رجل المعرفة الدينية يسعفه بالقرآن والسنة النبوية، لينطلق عبرهما لتحقيق أغراضه, وتأسس مبدأ"إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، وتصبح أغراضه الدنيوية السلطوية بفضل رجل المعرفة الدينى وقد باتت هى مقاصد الشريعة، ومؤسسة على القرآن، والسنة، ومن هنا برز دور رجال المعرفة فى التصدى لجدل الواقع وحتمياته برفضهم للابتداع وتحريمه، ومن بواكير التاريخ الاسلامى السياسى، تحولت مقاصد النصوص كنصوص إلى مقاصد شرعية عملية، وكان فى مقابل توسعة السلطة الحاكمة، وإطلاق يدها فى الحكم، أن يتوازى هذا التوسع مع توسعة مماثلة لسلطة رجل الدين المنتج لتلك المعرفة المؤسسة لشرعية المقاصد التى يمارسها الحاكم من جانبه، ومن هنا وجد الصراع القوى بين الشيوخ رجال العلم، وبين رجل السلطة حول من منهما سيتأثر بالقرآن والسنة، من اجل تحقيق أغراضه، فكان رجل السلطة بما يملكه من قوة الحكم، ورجل الدين بما يملكه من قدرة على تأويل النص لإنتاج ما يراه من المقاصد الشرعية، والى يومنا هذا فالنزاع مستمر مرة بإنتاج مقاصد متشددة تحرم السياحة، وزيارة الأضرحة، ومرة تنتج دلالات متراجعة، وفى كلا الموقفين، يرتكن رجال المعرفة الدينية على النصوص المؤسسة ذاتها، وتتحول المسائل الخلافية الاجتماعية والسياسية إلى مفاهيم شديدة الارتباط بالقرآن والسنة، من اجل أن ينتصر رجل المعرفة الدينية لرأيه، غير مبال بما يفعله تجاه النص المؤسس لسلطته المعرفية، أو يغير من موقفه من اجل كسب موقف توافقى بينى لوقت محدد، لا يلبث أن يعود بعده إلى سيرته الأولى من الأحكام المتشددة بحجة تغير الظرف، وتبدل الموقف، والسماح اليوم بممارسة ما كان محذوراّ بالأمس، ويدور المجتمع فى تقلبات تأويلية للنصوص الشرعية، تبعاً لمواقف سياسية لرجل المعرفة الدينى وهو يصارع السلطة الحاكمة.
الضرر والضرار؟
هناك حالتين لا ثالث لهما فى التاريخ الاسلامى للعلاقة بين رجل المعرفة الدينى، ورجل السلطة السياسى، إما أن يكون رجل المعرفة تابعا لرجل السلطة يبرر له طغيانه، ويبرر للشعوب استمرار خضوعها لهذا الطاغية بالطاعة العمياء، وتحريم الخروج على الحاكم، أو أن يكون رجل المعرفة الدينية منافساً للرجل السلطة السياسية، فبات الشيوخ منذ زمن ما قبل القنوات الفضائية بقرون وهم يحاولون الظهور بمظهر المنتمى للجماعة فى مواجهة الحاكم، بينما هم فى أصل فكرهم من جعل الحاكم ينشأ فى أحضان طغيانه، برره له، ومنحه الشرعية رجل الدين، ومن المشايخ اليوم من يتكلم عن المقاصد الغائبة للشريعة، ولا تعنيه تلك المقاصد بعينها بقدر ما يعنيه التلويح أمام الحاكم بما يملكه من مهارات التلاعب فى العقل الجمعى بفضل قدراته التأويلية، وانه متى منح احد الحكام السلطة، وأسس له شرعيتها من الكتاب والسنة، ظل مهدداً إياه، بما يملكه من تواجد لدى الجماهير، وبفضله عليه، وبقدرته على سحب السلطة منه، والإتيان بغيره، وقد تنبه الحكام إلى هذا الموقف، والدور الذى يلعبه رجل المعرفة الدينية مع السياسى، فكان هذا هو سر المذابح والاعتقالات السياسية التى يستشهد فيها رجال الدين بعد كل تحول فى السلطة داخل المجتمعات الإسلامية، وكأنهم يدفعون ثمن ولائهم للسلطان الجائر، وخدمته بالشرائع، ورفضهم لتداول السلطة، لان تداول السلطة سيضر برجل الدين قبل أن يضر بالحاكم المستبد، فتأسس الضرر والضرار بدلاً من الرضى بالطاغية طالما يقيم الشريعة، ولا ضرر ولا ضرار.
التقلبات السلفية؟
إن تصريحات الجماعة الإسلامية، والتراجع عنها، ما هو إلا الصورة المعتادة من التاريخ للعلاقة بين المد، والجزر بين السلطة السياسية، والفقهاء، ففى البدء كان رجال الدين مستقلين عن الساسة، إلا انه حدث تنازل عند رجال الدين عن هذا الاستقلال، وسخر الفقهاء معارفهم الفقية لخدمة الحاكم، حتى قال "ابن تيمية" فى كتابه "الصارم المسلول ":" فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف , أو فى وقت هو فيه مستضعف ؛ فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذى الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين , وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"، ثم راحوا وهم بصدد إرضاء الجماهير يتحولون إلى مراقبين للحاكم، ثم تمكن الحاكم من قمعهم بالسيف، للحيلولة دون تدخلهم فى السلطة السياسية، وظهرت بعد التصريحات المتشددة كالتى أصدرتها الجماعة الإسلامية اليوم، تصريحات تحمل تسويات للمواقف الفقهية، توفيقية، مثل" انه علينا أن نتغير مع المتغيرات ونثبت مع الثوابت، وألا ننشغل بالاختلاف حول الفرعيات، وألا نحول الصغائر إلى كبائر" وكانوا يبررونها كما يبرر شيوخ الفضائيات اليوم تقلباتهم الفكرية، بأنها من اجل الحفاظ على وحدة الأمة فيعلن احدهم  فى مؤتمره قرب معبد الأقصر"أن الصدامات الطائفية بين الشركاء فى الوطن الواحد تهدد بتمزيق البلاد"، حتى ظهر الفكر الاشعرى عند"أبى الحسن الماوردى"(364هـ) الذى فصل مبدأ الإمامة عن عمل الفقهاء بالشريعة، ورفض حكم الشرع نهائياً، مما دفع رافضى مبدأه إلى خلق نظرية تمنح رجل السلطة الشرعية الاستبدادية من داخل المقاصد الشرعية، لكى لا يتم فصل الشريعة عن السياسة، وتظل السياسة منتجه لوسائلها عبر الشريعة، حتى ولو تحولت الخلافة إلى ملك، فدائماً ما يمتلك رجال المعرفة الدينية القدرة على تأصيل أى فعل سياسى عبر الشريعة، فما يحدث اليوم هو صورة للمواقف التى أعطت للفكر الأصولى المبرر للتأقلم مع الواقع المتغير، ومستجداته، وإرضاء ضغوط السلطة الحاكمة من ناحية، وعموم الجماهير من ناحية أخرى، فكل المذاهب الفكرية الإسلامية سعت إلى هذا التوفيق، ولكنها أسسته على مقاصد مختلقة للنصوص، ولم تؤسسه على الواقع، لأنها لو فارقت النصوص لكانت بمثابة من تنازل عن سلطته التاريخية إلى الأبد، ولكنها سعت دائما لكى تجد نظريات تحتوى الواقع المتحول، وتنسب الفضل إلى النص، أو إلى العقل التأويلى الذى يتمتع بعه الفقيه اللماح، وتنكره على الواقع، وعلى الرأى العام للجمهور.
الإمام الغائب؟
كما افرز الفكر السياسى الاسلامى فى فترة من فتراته فكرة مرجعية الإمام الغائب، ذلك الإمام المفترض عودته من العالم المثالى ليقيم العدل على الأرض، فقد خلى الفكر الاسلامى نتيجة تلك التقلبات التوفيقية فى مواقف رجال الدين، فى علاقتهم بالسلطة، من وجود أى مرجعية لنظام سياسى محدد، يمكن رصد تطوره من مرحلة إلى أخرى، فحتى فترة الخلافة الراشدة، تبخرت مرجعيتها الفكرية السياسية أمام تحولها إلى ملك مطلق الاستبداد فى عهد الدولتين الأموية، والعباسية، حتى بات النظام الدينى الفقهى منفصلا عن السياسة، ومثيراً للقلق والمخاوف، أكثر مما يحققه من مثل عليا أخلاقية، لأنه ارتبط تاريخياً إما بالسلطان الجائر يتيح له الطاعة تأسيسا على الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء، أو ارتبط برجال دين يسعون إلى التسلط بإخضاع الحكام لهم، ويحرمون الخروج عليهم، مهما ظلموهم، فرجال الدين إما ارتموا فى أحضان السلطة، يؤسسون الدين والدولة، وإما فقهاء تمردوا على هذا النموذج، بيد أن المواقف السياسية للفقهاء لم يفردوا لها مؤلفات خاصة، وإنما يمكن أن نلمحها كما نلمح نفس المواقف السياسية لفقهاء اليوم عبر تصريحاتهم الفقهية، فليس أمامنا إلا الوقوف على مؤلفاتهم لكتبهم فى المقاصد الشرعية، لكى نستجلب منها مواقفهم السياسية، عبر خطوط عامة كبرى، فنعيد مثلاً قراءة رسالة"الإمام الشافعى" على اعتبار أنها صرخة رجل دين فقيه، فى مواجهة استنزاف النص بمعرفة رجال المعرفة الدينية، فى خدمة السلطة الحاكمة، أكثر من كونها قراءة تاسيسة لعلم الأصول فى الفقه الاسلامى تنتج بيان لمدى حجم إشكالية العلاقة بين رجل الدين السلفى، وبين رجل السلطة.
لاشك أن تضارب تصريحات رجال الدين السلفيين تدفع إلى القلق منهم، وهم بصدد تغيرهم مع المتغيرات، وثباتهم مع الثوابت، فالدولة الدينية ما هى إلا دولة تحكم فيها رجال المعرفة الدينية فى السلطة السياسية، وان لم يتولوا ممارستها، وحتى وعودهم بتداول السلطة فى ظل حكمهم، تبقى وعوداً مهددة بثوابتهم، ومتغيراتهم، الغير خاضعة لقواعد موضوعية عبر تاريخهم.
شاركه على جوجل بلس

عن جريدة النداء المصرية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق