.

.

"وسوسة" قصة قصيرة لـ إبراهيم شافعي


ربما لا يحسن هذا الرجل  إلا سباب الناس وشتمهم ، وأحيانا يتطاول عليهم بيده ، معروف بين جيرانه بتسلطه وطول لسانه ، ودائما ما تتجنبه الناس خشية بطشه وطغيانه ، حتي وكأنك تحس أنه لا يحسن إلا ذلك الأمر ، فقد ساعده بنيانه القوي علي هذا التجبر ، فهو قصير أقرب منه الي الطول وعريض بين منكبيه ، وأضافت له بشرته السمراء وملامحه قسوة علي قسوته ، فهو مع هذا الأنف الكبيرة والشفاه الغليظة وجبهته العريضة كأنما ولد ليكون بهذا الشر الذي هو عليه .. الشر الذي هو وليد المجتمع وقسوته أكثر من الطبع الذي قد تغيره البيئة والتنشئة .. حين تشاهد أفلام اللصوصية والبلطجة التي ملئت شاشات التلفزيون تحس أنه واحد منهم ، بل هو قبلهم .. فقد ألفه الناس علي هذه الشاكلة قبل أن يعرفوا "ابراهيم الأبيض"  أو "الألماني"وعلي الرغم من ذلك فهو لم يحمل سكينا قط  ولم يشهر سيفا في وجه أحد ..
فهل كانت قسوته فطرية أم اكتسبها ممن حوله وومن خالطهم ؟ أدرك الرجل الدنيا بعيني أخيه هذا الرجل الذي استولي علي كل ملامح القسوة والوحشية واستأثر بها لنفسه ، أضف الي ذلك غلظة الطبع وقلة الذوق .. لم يكن يحسن أخوه إلا التعامل معه بالسوط  علي كل كبيرة وصغيرة ، حتي تسمع صراخه واستغاثته صباح مساء ، كان أخوه يجامل الناس فيه ، فإذا ما اشتكي أحد منه في أي أمر عظم هذا الأمر أم صغر ، إلا والسوط هو الذي يتحدث ، شب الرجل علي هذه القسوة التي لا تعرف هوادة ولا لين في غفلة من الأم وفي يتم هذا الرجل الذي لم يعرف إلا هذه الأسرة ... أخ أكبر قاسي ووحشي في كل تعاملته وأخ يكبره يكيل له الصاع صاعين ، وأم ورثوا منها جميعا القبح الظاهري وقبح الجوهر ، هل تنتج أسرة كهذه شخصا سويا ؟ علي العكس تماما ! شخصية معقدة لأبعد ما يكون التعقيد ، وشخصية ورثت العنف علي أسوء مايكون العنف ..
كبر الرجل واشتد عوده وأول ما قسا وأغلظ التعامل كان لأخيه الأكبر ، فقد تعاون هو أخيه علي أخيهما الأكبر وأقصياه من البيت بعد سلسلة طويلة من العراك والسباب أدت إلي ترك أخيهما الأكبر البيت ، البيت الذي آوي الجميع تحت سقف ملتهب وغليان كان لابد أن يؤدي للانفجار ، ثم استحالت الحياة مع هذا الصغير العنيف الذي امتلاء قسوة وغلظة جعلت أخية الذي تعاون معه علي كبيرهما أن يخرج من البيت هو الأخر هربا من بطش الصغير وقسوته ، وكيف ينسي ما فعله أخيه الأوسط به ؟ لا ينسي أبدا وما كان ينبغي له أن ينسي ، لقد تعاونت أمه هذه الأم الحنون مع الصغير الذي طالما عاني والذي طالما ترك سوط أخيه العلامات علي جسده والتي تذكره كلما خلع ملابسه بهذا التاريخ القبيح لأخويه ، ثم مالبث أن بقي في منزله هو وأمه وحيدين ، يعمل من أجلها ويسعي لإرضائها هذا الحنو الذي جاء متأخرا كثيرا أكثر من 30 عاما لم يذق خلالها راحة ولا هدوء .. وفي هذه الظروف تجبرت الأم علي حساب هذا الصغير العنيف ، والذي جعل جميع الجيران والأقارب ينفرون منهما وكأنهما يعيشان في عزلة وفي صحراء لا جار يهتم ولا صديق يقترب ...
ثم ما لبثت الأم أن ماتت ، وزاد موتها من حساسية هذا الرجل وجعلته يرفض أي شفقة أو حنو من أحد ، خاصة وأن الناس قد بدأت تلين تجاهه نظير ما لحق به ، وحيد هو في منزله ، فلا رفاق يأتون ولا إخوة يحنون ولا جار ولا حبيب بل ولا زوجة ولا محبوبة ...
أغلق بابه علي نفسه وظل يكابد عناءات الوحدة ومرارة الفراق ، مازال لهذا الهرقل قلب يحب ، لقد أحب أمه وتوحد معها ، حتي وكأنما فراقها يقطع أحشائه ويمزق قلبه ، يخرج الي عمله ولم يكن له عمل ثابت ، ليس سوي هذا العمل اليومي والموسمي وحسب الظروف ، جعله يبيع كل ما يملك ليأكل ويدخن ، فقد باع حجرة نوم خشبية كان قد اشتراها ليتزوج بها .. ثم ما لبث أن أحس باضطهاد الناس له واظهر العداء لجاره الملاصق له ، فهو يسمعه باستمرار يتآمر عليه ويكيد له ، ما إن يسمع ذلك حتي يستشيط غضبا ، ثم يهرع إلي جاره يكيل له ، ولا يدري جاره ما ذنبه ، وماذا فعل ، لم يدرك أنه يسمعه وأنه يشعر به ، يسمع ما يحاك له في الخفاء ، ثم  ازدادت الأمور سوءا ، فأراد أن يثبت للناس أنه ليس معتدي ، بل جاره من يكيد له ويكرهه ، فأحضر أحد جيرانه الي غرفته ذات يوم صارخا له مما يفعل جاره :
اسمع ... ماذا يقول ؟
هاهو يدبر لي ويكيد لي ..
ووضع الرجل أذنه ليسمع وكانت المفاجأه ، ليس هناك من يكيد ، وليس هناك من يدبر له ، بل هي نفسه التي هيأت له السمع وباطنه الذي اسمعه ما يحب ، لم تكن ثمة مؤامرات ولم تكن ثمة مكائد ، لم يكن شئ سوي ضلالات في ذهن هذا الرجل ..
خرج الرجل ولا يدري ماذا يقول وما يفعل ! بل أسرع الي إخواته ! أه وما أدراك ما إخوته ! وما أدراك ما أخيه الأكبر ، لم يدرك الرجل أنه أهدي لإخوته هديه ثمينة ، فقد أهداهم دون يشعر رقبة أخيهم علي طبق من ذهب .
هنالك أدرك الأخ الأكبر- ولا شك فهو يسئ إلي هذه الرابطة القوية أبلغ إساءة- جنون أخيه ، فذهب يستصدر أمرا من المستشفي أن يأخذوه أو فلنقل ليعتقلوه بعيدا عن أعينهم التي لاتعرف رحمة ولا لين .
فجاءوا يسرعون اليه لينقذوا الناس من شره ، وما عاد له شر ، بل هو في انكساره كعصفور يصرخ لفراق أمه ، عصفور طار لبه لفراق عشه ، لم يعد هذا الهرقل الذي كان مكروه والذي تمنت الناس اقصاءه عن  حياتهم ، شيع الناس بدمعة تنزل كسيوف تقطع قلبه وتشيعه الناس بعبرات تمزق  قلوبهم ، انتهي الهرقل الي مستشفي للامراض العقلية ، وطال غياب غياب الرجل شهورا ، حتي أحس أخيه بنظرات الناس القاسية ، أحس بقزامته فقد سكن مكان أخيه ، ولم تطق الناس ذلك ولم يطق هو أيضا بل أسرع يحضر أخيه من المستشفي متوعدا برعايته في البيت ، ألم يكن هذا متاحا قبلما تزج به في هذا السجن ؟ لم يكن محتاج الي أكثر من حنوك وعطفك ، لم يكن محتاج أكثر من لم شملكم واجتماعكم حوله ، لقد أضافوا الي مراراته صبرا جديدا وإلي آلامه ألم آخر ، لم يطق بعدها العيش سوي أياما قليلة ، استيقظت الناس علي خبر موته ، وفي قلب كل منهم وردة تشيعه بدلا مما كان يحملونه في قلوبهم له رحل عن عالمهم وهو يلعن هذا العالم الذي لم يعرف رحمة ولا يبادله وداعته ، لم تكن قسوته الا ستارا يختفي وراءه من قسوة الناس وبطش من حوله ، ترك عالمهم وهو يلعن هذا الحياة التي فرقت بينه وبين إخوته وما يدري سببا لهذا ، أهو هذا البيت المتهالك الذي استكثروه عليه ، أم هي السطوة والسلطة التي مارسها أخيه عليه قسوة وقهرا وتجبرا ؟ مات الرجل وهو يلعن كل ظلم وكل ظالم ..



شاركه على جوجل بلس

عن جريدة النداء المصرية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق