.

%25D9%2585%25D8%25B3%25D8%25A7%25D8%25AD%25D8%25A9-%25D8%25A7%25D8%25B9%25D9%2584%25D8%25A7%25D9%2586%25D9%258A%25D8%25A9

التحليل النفسي للضحية "شوقي" في قصة "العسكري الأسود" لـ يوسف إدريس





د.خالد محمد عبدالغنى
%25D8%25AE%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25AF
د. خالد عبد الغني




رواية العسكري الأسود، تدور حول صديقه الدكتور "شوقي" وكان طالبا معه في كلية الطب ومنتمياً لجماعة "الإخوان"، ودخل السجن وتعرض لألوان شتى من التعذيب على يد عباس الزنفلي "العسكري الأسود" وقد ترك هذا التعذيب آثاره على جسد وروح شوقي، وما إن خرج من السجن إلا وتغيرت شخصيته تماما حتى أصبح شخصاً آخر، وحاول يوسف إدريس معرفة لماذا تبدل حال صديقه؟ وهذا ما سنكشف عنه في دراستنا الحالية إذ يعبر شوقي عن أزمة الإنسان المقهور أمام السلطة، كما تعرض الرواية لشخصية العسكري الأسود "عباس محمود الزنفلي" وكيف تبدل حاله هو أيضاً ليصبح من أكلة لحم البشر بعد أن كان دوره القيام بتعذيب شوقي وغيره من المعتقلين، وسؤالنا الذي نحاول الإجابة عنه هو هل قام بالتعذيب لمجرد تنفيذه للأوامر الملقاة عليه أم أن هناك رغبة نفسية دفعته للقيام بذلك ليصبح الجلاد الذي أصابه الجنون؟.
250px-%25D9%258A%25D9%2588%25D8%25B3%25D9%2581_%25D8%25A7%25D8%25AF%25D8%25B1%25D9%258A%25D8%25B3        منذ البداية يقرر شوقي عن نفسه أنه برجماتي وهذه البرجماتية تعد من أولى الدوافع للانتماء للجماعة، وتعالوا نطالع هذا المقطع حين يكتب إدريس قائلا:
"ولكنا حين خرجنا – يوسف إدريس وشوقي - من المؤتمر كنا قد نسينا الخلاف وكنا نتعازم على الشاي وصرح لي– شوقي - ونحن جلوس على المقهى أنه – بينه وبيني – كان يوافقني في الرأي لولا الموقف الذي كان عليه فيه أن يناصر زملاؤه أعضاء الجماعة التي كان ينتمي إليها"(الرواية).
         وفي ذلك أيضا يقول يوسف إدريس :
"شوقي كان يعمل في المكتب الطبي للمحافظة، وقد اختار فترة بعد الظهر ليكون النوبتجي فيها، لأن الطبيب حين يعمل في تلك الفترة كان ينفرد بالعمل في المكتب ويصبح هو الرئيس، ورئاسة المكتب الطبي والجلوس على كرسي الحكيمباشي وتلقي تحيات المراسلة والمستخدمين متعة لابد أن ترضي غرور أي طبيب شاب" (الرواية).
         ويزداد الإيضاح والتفسير حين يقول إدريس:
"كان شوقي يبحث في دفتر الإشارات التليفونية التي ترسل للمكتب لتطلب توقيع الكشف الطبي على العساكر أو الضباط المرضى وكان يفعل هذا لحكمة ومصلحة .. فقد جرت العادة أن يجرد الإشارات ليختار منها واحدة يكون العنوان المذكور فيها قريبا من عيادته إذا كان يريد الذهاب للعيادة، أو  بيته، ويختارها هكذا لكي يوفر على نفسه ركوب الترام أو الأتوبيس أو استعمال عربته الخاصة، إذ في هذه الحالة تقوم عربة المكتب الحكومية بتوصيله خلسة بعد الانتهاء من المهمة" (الرواية).
إيمانه بقضيته
o83        يؤكد إدريس على واحدة من خصائص شوقي وهي إيمانه بقضيته فيقول:
" كان أحد زعماء الكلية وأحد زعماء مذهبه كان دائما على استعداد لمناقشة أكثر الآراء بعدا عن رأيه، يرحب بالجدل بابتسامة واثقة ولا يثور". وكان شوقي يتمتع بطاقة إرادة هائلة، وكأنه ولد وهو يعرف بالضبط ما يريد ومتأكد أنه واصل إليه لا محالة، وكان يبدو وكأن إرادته تلك ترسب إيمانه في قلبه طبقة فوقها طبقة، وكل يوم تزيده قوة وتشعبا بطريقة محال معها من أن يتزلزل إيمانه ذلك بإيمان جديد... (الرواية)".
إرهاب السلطة والتوحد بالمعتدي
                   ويؤكد أثر إرهاب السلطة على الفرد كما حدث في شخصية شوقي ما يذكره إدريس قائلا:
"إذ بعد شهور طويلة من انقطاع الصلة بيننا لم أره إلا يوم الإمتحان ..فوجئت به يدخل علينا الخيمة ومعه جمع من زملائه مكبلين بالحديد ومعهم جيش من الحراس ببنادق وكونستبلات . يومها عبر اللجنة وأوراق الأسئلة تبادلنا ابتسامات راعينا أن تكون خفية وأن عيونا غير مرئية ستلحظها وتسجلها. ألم أقل إننا كنا في فترة إرهاب ؟ وماذا يفعل الإرهاب أكثر من أن ينجح في جعل كل منا يتولى إرهاب نفسه بنفسه ، فيقوم هو بإسكاتها وإخضاعها للأمر الواقع الرهيب" (الرواية).
        ولكي ندلل على التوحد مع المعتدي وقيمه وسلوكه لدى شوقي بعد خروجه من السجن يقول يوسف إدريس :
"وكان أول ما لاحظته أن نظرته اكتسبت طابعا آخر لم يكن لها. كان في عينيه دائما بريق يشع ويكسب ملامحه جاذبية خاصة ..جاذبية المؤمن بحقيقة تضيئ نفسه ، وتفضح ملامحه الضوء الداخلي وتشعه، ويتركز النور في عينيه وينقل للعالم صورة نفسه المؤمنة، ذلك البريق كان قد اختفى وكأنما اجتث من جذوره ولم يبق لعينيه التي تميز عيني كل كائن حي ! . وصوت شوقي نفسه قد تغير فأصبح لا يتحدث إلا همسا، همس مؤدب خافت كمن يتوقع دائما أن يرفض طلبه. إن شوقي لم يتغير فقط ولكنه أصبح بالتأكيد إنسانا آخر غير شوقي الذي عرفته، كم من مرة ضبطته يتآمر مؤامرات صغيرة في القسم ليتاح له مثلا أن يحظى بعملية فتق أكثر مني ومن زملائه ! كثيرا ما سمعته ينافق النائب الذي لا يكبرنا في العمر أو في الوظيفة إلا بعام واحد من أجل أن يقرضه كتابا أو يدعه يلقي نظرة في المنظار، ويكذب باستمرار وبلا سبب وبطريقة ساذجة مكشوفة تدفع للاشمئزاز، ولم أصدق الإشاعة التي أطلقتها الحكيمة عليه إلا بعد أن رأيت بعيني كيف يحضر المرضى في كشك الغيار ويساومهم مساومات رخيصة على أن يتوصى بهم في العلاج ويأخذ في مقابل هذا بضعة قروش هي كل ما يمتلكه المريض الراقد في عنبر المستشفى. ، كما أنه كان مصابا بمرض جنون السرقة ،،، ولا أريد أن أسرد كل ما كان يفعله شوقي في سنة الامتياز أو بعدها ... العيادات التي افتتحها والنصب والابتزاز والنظرة الأفعوانية المريبة التي كان ينظر بها إلى المرضى والناس ، قاطع عائلته بعد التخرج وأبى أن يساعدهم بمليم وكيف ، ومن ؟؟؟ والطريقة البالغة الشذوذ التي تزوج بها والتي حصل بها على الدبلوم ، و "سعى" حتى عين في هذه الوظيفة في مكتب حكيمباشي المحافظة .. لا ولا بأي أسلوب وحشي كان يعامل رواد المكتب ، خاصة رواده من العساكر... طالبي الأجازات .. شاهدت مرة عسكريا يبكي أمامه بدموع حقيقية يستحلفه ويرجوه ألا يكتب أنه متمارض حتى لا يحاكم ويخصم من مرتبه أيام . ولا يفعل الرجاء والإلحاح ولا تفعل الذلة والدموع أكثر من أن تجعل شوقي يبتسم وتومض ملامحه في غبطة خطورتها أنها كانت حقيقية أيضا (الرواية).
         تصوروا أي اضطراب أصاب شوقي حوله إلى هذه الشخصية إننا نذهب إلى أن شوقي كانت تختبئ بداخله كل هذه الصفات وما مرحلة السجن والتعذيب إلا ما يطلق عليه في الطب النفسي العامل المهيئ لظهور المرض، ولكن العامل المسبب للمرض فهو كثير من حيث التنشئة الاجتماعية والأسرية ومطامحه الشخصية التي دفعته ليكون عضوا في الجماعة التي انتمى إليها يدفعه إلى ذلك حماس الشباب،  ويعلل يوسف إدريس الصداقة بينه وبين شوقي قائلا :
"ربما السبب في الصداقة المهيمنة الكبيرة التي جمعتنا أننا جميعا كنا نؤمن – رغم اختلاف طرقنا ووسائلنا – أن لنا رسالة واحدة نحن مبعوثو العناية لتحقيقها .. انقاذ بلادنا وتغيير مصير شعبنا تغييرا جذريا وإلى الأبد وهكذا بدأت واستمرت علاقتي بشوقي"( الرواية).
           من المعروف أن فترة المراهقة والشباب تتسم بالمثالية في الأفكار والتصورات حول الذات والعالم الخارجي ومن ثم فليس من الغريب أن يعيش طلاب الجامعة هذه المعاني لأن الواقع بعد ذلك سيكشف زيف الكثيرين ممن ادعوا المثالية في أفكارهم.      
السلوك الفمي العدواني       
شوقي مثبت على المرحلة الفمية ولكنه لا يستطيع الكلام بسبب التعذيب الذي حدث له فقام لاشعوريا بتكوين عكسي يقوم على حب الاستماع والتلذذ به فهو يجد متعته عن طريق الأذن وهي عنصر مشترك مع وظيفة الكلام فإذا تكلم الإنسان فهو يرغب فيمن يستمع إليه وإذا استمع فمن المؤكد أن هناك من يتكلم معه، وفي ذلك يصف يوسف إدريس شوقي قائلا:
 "ورغم أن شوقي كان يرفض دائما أن يتحدث هو أو يعلن، بل ويتعمد أن يبدو حين أتحدث أنا وكأن لا صلة له بالموضوع أو الحديث أو ليس له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بكل ما يمت إلى كائن أو قوة خارجة عنه رغم هذا إلا إني كنت ألحظ دائما أنه رغم كل تمثيله يستمع، ويستمع بلذة لهوفة ينجح في اخفائها معظم الأحيان .. حتى إذا سكت استثار سكوتي بسؤال جانبي"(الرواية). والثانية هي اتخاذه – أي شوقي - أساليب دفاعية تتعلق بإحداث لذة ومتعة فمية مثل كثرة الكلام والبلاغة والتدخين الخ، ولذلك يقدم لنا يوسف إدريس هذا الوصف المكمل لشخصية شوقي قائلا :
"يرحب بالجدل بابتسامة واثقة ولا يثور،، حتى إذا سكت استثار سكوتي بسؤال جانبي، أو بجذبة نفس من سيجارة أخرى يشعلها ويبتلع دخانها بطريقة من يود أن يطفئ بدخانها ظمأ بلغ درجة الحريق – وهو الذي طالما ألقى عليَّ ونحن طلبة المحاضرات في مضار التدخين ودلالته الخلقية المشينة، هو الذي أصبحت أظافر يمناه ويسراه والعقد الأخيرة من أصابعه بنية محترقة من لون التبغ. وتطول الجلسة وأنا أفضفض عن نفسي بالحديث وشوقي يفضفض عن نفسه في حذر عظيم بالاستماع، ندخن بكثرة وكأنما ننوي الانتحار مدخنين، ونشحن المكان بسحب متكاثفة لا نكف بل نمضي نحرق اللفائف وتحرقنا، ونملأ الجو بدخان يضغط على صدورنا لتخرج دخانا أكثر (الرواية) .
         ونلاحظ أن شوقي قام بإعلاء Sublimation  و الطاقة سواء كانت جنسية أو عدوانية إلى قنوات أخرى تكون أكثر قبولاً من الناحية الإجتماعية كالرياضة و الرسم، وهذا الإعلاء كان لرغاباته الجنسية وتثبيته على المرحلة الفمية أيام دراسته بالكلية والذي اتخذ كل تنويعات الخطابة والمحاضرات والجدال وحتى أشكال العنف اللفظي. ولكن شوقي يطور من تلذذه بالأنشطة الفمية لدرجة أن يصفه يوسف إدريس قائلا :
"ومع هذا تعجب لتمسكه بالحياة ونهمه إلى الدنيا بطريقة يكاد معها أن يبتلعها – لو استطاع – داخل جوفه" (الرواية).
          وفي هذا إشارة بالغة تؤكد لنا عمق النكوص الفمي في بلع الدنيا واستدماجها داخل جوفه.
الموت النفسي لشوقي نتيجة التعذيب
      إن السجين الذي يقهره التعذيب بوحشية لا يعود كما كان قبل تعذيبه لأن التعذيب قد يأخذ ألوانا وأشكالا تقتل المعذَب نفسيا وتؤذيه معنويا وفي هذا الإطار نطالع ما ذكره يوسف إدريس عن الضرب والتعذيب:
"هناك تجرب الإحساس الحقيقي بالضرب، بألم الضرب، لا مجرد الألم الموضعي للضربة أو الألم الناتج عنها، إنما بألم آخر مصاحب أبشع .. أقوى ، ألم الإهانة ، حين تحس أن كل ضربة توجه إلى جزء من جسدك توجه ضربة أخرى إلى كيانك كله، إلى إحساسك وكرامتك كإنسان. ضربة ألمها مبرح، لأنها تصيب نفسك من الداخل إصابة مباشرة، وهكذا في مقابل كل ضربة هائلة الألم عارمة القسوة مهينة تتلقاها من الخارج تنهال عليك من داخلك وذات نفسك ألف لعنة، ألف طعنة، ألف إحساس مخجل مهين تمزق أحشاءك وتذيب كماء النار كرامتك، لأنك لا تموت ولا تريد الموت ولا تزال حيا تتمسك ذليلا بالحياة (الرواية).


شاركه على جوجل بلس

عن جريدة النداء المصرية

12998482_823138894496135_2382867928450220534_n
    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق