.

.

د. ناجح إبراهيم يكتب: كيف ماتت الصحافة المصرية؟!

 
د. ناجح إبراهيم
جمع رئيس تحرير إحدى الصحف الخاصة محرريه الشباب فى بداية الجولة الأولى للانتخابات البرلمانية السابقة وقال لهم فى حماس أشبه بمن يخاطب جنوده قبل المعركة: أريد منكم أن تنجزوا تحقيقات تفضح السلفيين وتسقطهم معنويا وفى الانتخابات.

• فقال له أحد المحررين الشباب: فإذا لم نجد مثل هذه الأشياء ماذا نفعل؟ فقال له بنفس الحماسة: من لا يجد أى أخبار أو تحقيقات يفبرك أى شىء يصلح لذلك أو يستضيف خصومهم ليوسعوهم شتما.

• تعجبت كثيرا حينما حكى لى أحد شهود الواقعة قلت له: يمكنك أن تخاصم وتعادى سياسيا من شئت، ولكن أن تفترى عليه أو تدعى عليه زورا وبهتانا ما لم يفعله فهذا لا يجوز شرعا ولا قانونا، ويعد نوعا من التردى المهنى والأخلاقى، وإذا كان هذا يحدث مع السلفيين الذين لا يصطدمون مع الدولة فكيف بغيرهم؟!.

• وقال لى صحفى شاب من الأقاليم إنه يرسل تحقيقاته إلى رئيس التحرير فيختار أفضلها وينشرها باسمه.

• قلت له: لابد أنك غضبت وتركت الصحيفة! قال: لا، أنا راض لأنه ليس لى خيار سوى ذلك، وراض عن مرتبى الذى لا يقبله الفراش، كل ذلك من أجل أن يعطينى ورقة العتق من عبوديته والتحرر منها.

• قلت له: ما هى هذه الورقة؟ قال: ورقة دخولى النقابة.

• وهناك صحيفة خاصة يملى صاحبها مانشيتات الصفحة الأولى باستمرار تليفونيا على رئيس التحرير، وهذه الصحيفة مشهورة بأن معظم مانشيتاتها وعناوينها تفوق أبو لمعة المصرى الذى أضحكنا ونحن صغار، ورئيس التحرير لا يعترض لأن «من يعترض ينطرد ومن ذاق عرف».

• وفى سياق آخر ظلت صحيفة خاصة تبتز أحد الوزراء الذين يحرصون على منصبهم أكثر من حرصهم على الدين والقيم، وظلت تنشر المستندات التى تدل على سريان الفساد فى وزارته، حتى إذا تواصل النشر وتعمق تواصل الوزير مع رئيس التحرير الذى دخل معه فى صفقة لصالحه الشخصى، ولما تحقق له ما أراد توقف النشر.

• ومثل هذه التحقيقات تتم عن طريق المحررين الشباب حسنى النية الغيورين على بلادهم والذين يكرهون الفساد والذين يعملون بجد واجتهاد فى مثل هذه التحقيقات دون أن يشعروا أنهم جزء من مدرسة ابتزاز كبرى لا دخل لهم بها ولا مصلحة لهم فيها، وأن نتاج جهدهم وحماستهم لا يصب فى صالح الوطن ولكنه يصب فى جيوب آخرين ويبقى الفساد كما هو.

• والغريب أن مدرسة الابتزاز تعد مدرسة متجذرة فى الصحافة المصرية ولها فرسانها المعروفون الذين لا يشق لهم غبار، وبعضهم يبتز لصالحه شخصيا، وبعضهم يبتز لصالح الجريدة مثلما يبتز وزارة غنية والوزارات الغنية معروفة من أجل أن تساهم فى اعلانات الصحيفة بعدة ملايين فيكون نصيبه القانونى منها 20% و80% تذهب لصاحب الجريدة.

• فى إحدى الصحف المصرية كان رئيس التحرير يتقاضى منذ سنوات أكثر من ثلاثين ألف جنيه وكان هناك صحفيون صغار لا تجاوز مرتباتهم 600 جنيه وبعضهم لا يجاوز مائتى جنيه، أما المحرر الصغير النشيط فلا يجاوز مرتبه 1200 جنيه وهناك قاعدة لدى بعض مديرى تحرير الصحف الخاصة «أنك لا تعطى المحرر أكثر من ألف جنيه حتى يلهث باستمرار خلفك».

• وصدق أحد كبار الصحفيين بقوله: «مرتب الصحفى الشاب أقل من دخل أى حرفى» مع أن مرتبات الصحفى فى أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية من أعلى المرتبات.

• بعض الصحف المصرية تحولت منذ ثلاث سنوات إلى صحافة أشبه بصحافة الاتحاد السوفيتى مثل«البرافدا» أى الحقيقة والغريب أنها طوال عمرها لم تنطق بالحقيقة أو تشبه صحافة الستينيات أو نموذج «أحمد سعيد» فهى صحافة تعبئة تستهدف حشد الجماهير بالدعايات غير الدقيقة، وصحافة التعبئة قد تكون مقبولة نوعا ما إذا كانت التعبئة تتم بناء على حقائق لا يمارى فيها أحد وليس فيها أى كذب، ولكن أن تبنى التعبئة على خلاف الحقيقة فهذه هى الكارثة.

• لقد هللت الصحافة فى الستينيات لكل شىء حتى لو كان ضارا بالوطن، هللت لإلغاء الأحزاب، ولقوانين الطوارئ، ولتعذيب الإخوان فى السجن الحربى ولتأميم الصحافة.

• والغريب أن بعض الصحف المصرية لا تعتذر عن أى خطأ وقعت فيه فأساءت إلى إنسان أو مؤسسة ما دام هذا الإنسان ضعيفا أو ما دامت تلك المؤسسة لا تستطيع أن تؤذى الصحفى والصحافة.

• فقد صدرت معظم الصحف القومية وبعض الخاصة تتهم حسن مالك بأنه وراء أزمة الدولار وأنه كان يخفى نصف مليار دولار وأوسعوه شتما وسبا وتبعهم معظم الناس، ومر أكثر من عام على سجنه والدولار فى ارتفاع وتزايد والمشكلة تتفاقم، ولم تقم هذه الصحف بتكذيب الخبر أو الاعتذار له ولأسرته، وكذلك المستشار جنينة الذى أوسعوه سبا وشتما ثم إذا بهذه الصحف نفسها تنشر من قضايا الفساد ما يشيب لو الولدان، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تعد.

• يضاف إلى ذلك أن معظم الأخبار والتقارير التى يتم تكذيبها ويشتم أصحابها فى الصحف تثبت الأيام صحتها ودقتها، دون اعتذار أو تصحيح أو تريث أو حتى وضع كل الاحتمالات، ومذهبهم الاحتمال الواحد الذى يدرك الجميع خطؤه ورغم ذلك يتم الإصرار عليه.

• ولعل أبرز نموذج على ذلك الطائرة الروسية التى أصرت كل الصحف على شتم أى تقرير فنى يؤكد تفجيرها متهمة كل من يدعى ذلك بأنه خائن ومتآمر، مع أن أصغر خبير فى مكافحة الارهاب يستنتج أنها تمت بانفجار قنبلة من داخلها.

• كان عدد الصحفيين عام 2010 قرابة 2000 صحفيا قفز فى عدة سنوات ليصل إلى 12 ألف صحفى، هذه القفزة غير المنطقية تدل على أن بعضهم دخل عالم الصحافة بطرق ملتوية بعضها مجاملة، وأخرى للقرابة والوراثة، وثالثة بالتدليس والغش، وبعضها للتقارب الايديولوجى وزيادة الأنصار، المهم أن عددا كبيرا من هؤلاء يفتقرون إلى المهنية والحرفية، ولذلك يتقدم أكثرهم إلى المسابقات الدولية فيرسبون.

• فقد تقدم آلاف لمسابقة محررين صحفيين فى MBC فرسبوا جميعا رغم سهولة الامتحان، وتقدم عدة آلاف للعمل كمترجمين فى BBC فلم ينجح منهم إلا واحد فقط، لأن معظم هؤلاء نتاج تعليم ضعيف وتدريب أضعف وليس لديهم صبر على التعلم والتدريب ولديهم عجلة فى طلب المادة قبل كل شىء.

• ليس هناك كاتب فى الصحافة المصرية الآن يتلهف القراء والمثقفون على قراءة مقاله أو عموده أو ينتظرونه أو لا يستطيعون إتمام يومهم دون قراءته إلا فيما ندر.

• تأمل كيف كان الناس ينتظرون بريد الجمعة ليقرأوا لـ«مطاوع»، أو أهرام الجمعة ليقرأوا بصراحة لهيكل، أو لأنيس منصور فى عمود الجمعة بالأهرام أو مصطفى شردى فى الوفد، قليلون جدا من ينتظر الناس مقالاتهم، فالأمية زادت، والحريات ضعفت، والكتاب الكبار لا تجدهم، والمهنية غائبة.

• لقد تحولت الصحافة من رسالة إلى سبوبة مثل الطب تماما، فبعض الصحف القومية أشبه بالنشرات الحكومية، وبعض إصداراتها لا توزع ألف نسخة والمرتجع منها أكثر من المباع ورغم ذلك تصر هذه المؤسسات على استمرار مسلسل الخسائر ما دامت من جيب دافعى الضرائب.

• لقد كانت الأهرام الصحفية رقم 5 على مستوى العالم فى زمن من الأزمان فأين الآن الصحف المصرية مهنية ومصداقية وحرية، وإخراجا فنيا وتوزيعا من الصحف العالمية.

• لقد جاء قرار مطابع الأهرام بزيادة أسعار طبع الصحف بنسبة 80% كالقشة التى قصمت ظهر بعير الصحافة الورقية، والحقيقة أن ظهرها كان مقصوما من قبل بالأسباب التى ذكرتها مع أسباب أخرى يطول المقام لشرحها، الصحافة المصرية وخاصة الورقية كانت تعانى موتا اكلينيكيا وجاء هذا القرار ليقتلها ويجهز عليها.

• لا صحافة حرة فى أجواء تفتقر للحرية، الصحافة بنت مجتمعها والمجتمع فى أضعف حالاته فكيف ستكون قوية، الصحافة الأمريكية والبريطانية قوية لقوة مجتمعها وللحريات اللا محدودة فيه، الحرية المسئولة العاقلة هى البداية الحقيقية لانطلاق مجتمعاتنا نحو الإصلاح والتجديد، والبداية الحقيقية لصحافة مصرية رائعة ومتجددة وعصرية ومهنية.


نقلاً عن جريدة الشروق 
شاركه على جوجل بلس

عن جريدة النداء المصرية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق