الإعلام أصبح صناعة وتجارة وأصبحت تحكمه آليات العمل السوقي ولم يعد رسالة لتوجيه الناس للبناء وفق مشروع وهدف قومي يحدده الإعلام أو تحدده الدولة كما كان في مصر في الفترة الناصرية حيث المشاريع الكبرى الاقتصادية والثقافية فكانت أجهزة الإعلام في الدولة تصنع الوعي بتلك المشاريع ولعل ما يؤكد نجاحها أن المشروع الناصري وبرغم التحفظات على بعضه ما يزال موجود حتى الآن وصور عبدالناصر تعود للظهور مع كل أزمة تتعرض لها الطبقة الوسطى أو يتعرض لها الوطن ،،، فقد عاد عبدالناصر للظهور في يناير 2011 وفي يونيه 2013 وعند أزمة جزيرتي تيران وصنافير، وعند غياب القوت اليومي للشعب. ومن الواضح أن الجماهير في هذا الفعل المهتم بعبدالناصر لا تتبع الإعلام الرسمي ولا الخاص ولكنها تعبر عن ذاتها ولا شعورها الجمعي وما حققته تلك الطبقة الوسطى والفلاحون من مكاسب طوال الفترة الناصرية، وما تعبر عنه الجماهير أيضا في الانتصار العظيم في أكتوبر 1973 والاحتفالات بذكرى النصر كل عام إنما تعبر عن رغبة في مواجهة الهزيمة والشعور بالانتصار والرغبة في إحياء روح النضال والمقاومة، ولا يهمها أيضا ما يبثها الإعلام الرسمي أو الخاص لأنها قضية تمس الوجود لهذا الشعب ولابد له من أن يحافظ على وجود.
والحق الذي لا ريب فيه أن الإعلام أحد روافد تشكيل الوعي داخل المجتمع ولذلك فعليه أن يكون معبرا عن الحقيقة خاصة وأنه في دنيا الإعلام لا يوجد أعلام مستقل فكل وسيلة إعلامية سواء كانت فضائية أو إذاعية أو صحف ومجلات أو حتى الإعلام البديل فيما يعرف بشبكات التواصل الاجتماعي وقنوات اليوتيوب لابد وأن يكون لكل واحدة منها أجندة خاصة وأهداف تسعى لتحقيقها وإذا كان الحال كما هو عليه الوضع الآن ما بين إعلام حكومي (فضائيات وصحف وإذاعة) وكتائب الكترونية مؤيدة بتطرف تشكل وعي الجماهير بطريقة غير متناسبة مع الواقع تأخذ أقصى الطرف يميناً، وإعلام خاص (فضائيات وصحف وإذاعة وعلينا ألا ننسى تأثير الإعلانات وتمويلها للإعلام الخاص ومحاولتها لتكوين مراكز قوى اجتماعية وسياسية) وكتائب الكترونية مؤيدة بتطرف أيضا يزيف الواقع في أغلبه لصالح أجندته الخاصة متخذا أقصى الطرف يساراً، ولنأخذ مثالا لمعالجة الإعلام الحكومي (الرسمي) والخاص للهجوم الإرهابي على كمين قزدان مؤخرا، سنجد أن الإعلام الرسمي طوال الأيام الثلاثة للحدث لم يضع شارة الحداد على يسار الشاشة في الوقت الذي وضعت فيه القنوات الخاصة تلك الشارة، وأثناء جنازات الشهداء لم تنقل القنوات الحكومية الحدث بينما نقلته القنوات الخاصة مباشر، إذاً فالإعلام الحكومي تعامل مع الحدث كأنه شيء عادي ولم يعطه الاهتمام الكافي حتى يعطي الرسالة التالية للجماهير "لا شئ غير عادي يحدث في مصر" ، والرسالة التي أعطتها القنوات الخاصة هي "يوجد إرهاب شديد في مصر"، والمتلقي هنا سيذهب للوسيلة الإعلامية التي تتفق مع هواه الخاص فمن كانت شخصيته تنزع نحو التطرف يمينا فقد عرف وجهته والآخر كذلك، ولكن أين الإعلام الموضوعي المحايد "الوسط" وهو ما يجب أن يكون عليه الإعلام ومن أهم ملامحه أن يتصف بالحقيقة وعرضها دون تزيد ايجابي أو سلبي ويترك للمتلقي تكوين رأي خاص به ، وإلا كان الإعلام المزيِف للحقيقة في خطورة المخدرات تلك التي تقوم بدورها بتزييف الواقع وتصنع عالما مناقضا للحقيقة في ذهن ووعي المتعاطي. وعندئذ تجب مواجهة ذلك الإعلام المزيِف للواقع لخطورته على تكوين الشخصية المتطرفة أحادية الاتجاه والسلوك والتي تتصف بغير الموضوعية في آن، ويحضرني واقعة شخصية في صيف عام 1992 كنت أعمل بصحيفة النور الصادرة عن حزب الأحرار وجاء الخبر التالي"القبض على مجموعة في شقة في الإسكندرية" وكانت صيغة الخبر كما نشر بالجريدة "مداهمة شقة بها مجموعة من الإخوان في الإسكندرية" وهنا يتكشف أن لصيغة الخبر لدى جريدة النور علاقة بتوجهها العام وأنها جريدة حزبية إسلامية معارضة، ولها أيضا علاقة برئيس تحريرها آنذاك الحمزة دعبس.
ولنأخذ مثالا لسائق التوكتوك مؤخراً وما عرضه من سلبيات قد تكون صحيحة تعامل معها الإعلام كونها حدث ضخم مع أن الكل يقول ذلك أو أكثر (الأمر أذاً حدثت له صناعة وليس فعلا طبيعياً) والحق أن الصورة ليست كذلك فأغلب الذين يشكون من الوضع الاقتصادي لديهم ممارسات وسلوكيات لو تم مواجهتها والتقليل منها لانخفض معدلات شكواهم ومثالا لذلك انتشار أجهزة المحمول في الأسرة الواحدة وكأنك تعيش في سنترال يدفع المصريون المليارات سنويا لشبكة المحمول والجدوى الاقتصادية يعلمها الله،، ويدفع المصريون المليارات سنويا للتدخين ومثلها للمخدرات، ومثلها للدروس الخصوصية، ومثلها لألعاب الأطفال الصينية الصنع والتي تنتهي مع الظهر في الأعياد والمناسبات، والمليارات التي تنفق على للرحلات السياحية بأنواعها المختلفة الترفيهية والدينية والمبالغة في كل ذلك حد الإسراف والمخيلة التي لا ضرورة لهما وغيرها وغيرها. فماذا يقدم الإعلام في مثل هذه الحالات، عليه أن يقدم الحقيقة التي لن ترضى الكثير وعليه ألا يتأثر بذلك ، فالمتلقي هو من سيدفع الثمن حيث يتشكل وعيه المزيَف بعد قراءة الخبر على النحو السابق لما ذكرناه. فمثلا لو دُعِيَتْ الناس لترشيد زيارات العمرة السنوية وما تتكلفه ميزانية الأسرة المصرية - والدولة في النهاية - من تكاليف ستنهض عندئذ كثير من الوجوه بأن ذلك حرب على الإسلام، وساعتئذ ستجاريها بعض وسائل الإعلام ، حتى وإن قلت لهم إن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب أوقف حد السرقة عام الرمادة لما كانت الظروف الاجتماعية والصحية والجغرافية من قحط ومرض وأوبئة ونقص في الثمرات قد أصابت البلاد والعباد . هل كان يحارب الإسلام أيضا؟ .
وقد يعرض الإعلام بتنويعاته المختلفة لصورة امرأة أو رجل أو طفل يمد يده لصندوق القمامة ويكون التعليق عليها "المرأة التي تأكل من القمامة أو تبحث عن طعامها في القمامة" وعندما يتلقى المتلقي هذه الرسالة فلابد وأن يصاب بالضيق بل وبالبغض للحكومة والدولة ويطلق اللعنات والسباب على كل المسئولين، وعندما تكون الحقيقة على النحو التالي "الصورة كانت لأسرة تعمل في جمع القمامة وإعادة فرزها لبيعها" . عندها سيكون أمر المتلقي مختلفا تماما ، ولذلك فالإعلام قد يصنع الخبر الكاذب من البداية ليروج لفكرة أو لطرح بعينه ولذا فعلي المتلقي أن يتدرب على التفكير الناقد ووضع بدائل عدة لتفسير ما يراه أو يسمعه أو ينقل له من الآخرين.
ولنأخذ فيديو لمحمود عباس وهو يمد يده ليسلم على كيرى وزير خارجية أمريكا وكيرى يسحب يده ولا يسلم على عباس" والفيديو عندما تأملته وحللت بقيته تأكدت أن أحدا ما قد قص لحظة السلام وتعانق اليدين وأبقي على يد كيري عندما تعود من السلام" وكان التعليق على الفيديو كما يلي "شوفوا كيري يرفض مصافحة محمود عباس " وعندها لابد وأن تمتلئ غيظا من عباس وبغضا لجون كيري واحتقارا للشخصية العربية .
فالواقع في حقيقة الأمر يكشف لنا أن قضية الإعلام وتأثيره سواء في مواجهة الأزمات وصناعة جو التشاؤم أو التفاؤل والأمل لهي قضية معقدة جدا وذات أبعاد متعددة منها ما هو اقتصادي واجتماعي وسياسي ومحلي ودولي وديني وثقافي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق