.

.

د.خالد عبدالغني يكتب : في الطريق إلى 22 يناير ولقائي بالعلامة حسين عبدالقادر



أنهيت الدراسة الجامعية الأولى بقسم علم النفس بآداب بنها في مايو 1992 ضمن أعضاء الدفعة الثانية، فقد كان القسم وليداً يومذاك، وبه عدد لم يتجاوز أصابع اليد الواحدة من المدرسين حديثي العهد بالحصول على الدكتوراه أغلبهم من خريجي آداب عين شمس، ومع ذلك لم نحظَّ – نحن خريجوا هذا القسم – بمعرفة عن التحليل النفسي تتجاوز فصلاً واحداً في مواد تاريخ علم النفس أو الإرشاد النفسي أو نظريات الشخصية، ويكاد أن يكون ذلك الفصل مكرراً أو مبتسراً حسب ظروف الطلاب من جهة الحضور أو من جهة المدرس القائم بالتدريس فكلهم من الذين يقيمون خارج بنها وعليهم السفر لأماكن إقاماتهم ومواعيد القطارات تكاد تكون مقدسة وهي الأولى بالرعاية والاهتمام، وبالعودة لتلك المقررات نجد مادة تاريخ علم النفس "الفصل الرابع بعنوان: ظهور النظريات الشخصية وتطورها وأهم روادها" ص ص 119 – 156. من القطع الصغير. ومثلها في مادة الإرشاد النفسي ومادة نظريات الشخصية، وكانت مكتبة الكلية فقيرة فيما يتصل بكتب علم النفس بعامة، وكانت أشد فقراً فيما يتصل بكتب التحليل النفسي الذي لم ولا عنوان واحد يحمل اسمه ولا أحد مؤلفات فرويد المترجمة إلى اللغة العربية، وبالرجوع إلى وثيقة الاستعارة الخاصة بي من مكتبة الكلية خلال الفرقة الرابعة تبين ما نذهب إليه من فقر مدقع في كتب علم النفس وبخاصة التحليل النفسي في المكتبة، وكنت مزوداً بمعارف عدة عند دخولي الجامعة ما بين قراءة منتظمة لأعمال طه حسين وعباس محمود العقاد ومحمد الغزالي ومصطفى محمود ومحمد متولي الشعرواي وخالد محمد خالد، ومع مرور الأيام تهاوت نظرتي لمصطفى محمود والشعرواي بفعل الدكتور محمد حافظ دياب مدرس الانثروبولجيا يومذاك – والفائز بجائزة الدولة التقديرية 2013- ( )، والعقاد بفعل الدكتور السيد فضل مدرس النقد الأدبي ساعتئذ – وعميد الكلية فيما بعد -، وبقي في وجداني تعلق بمحمد الغزالي واستبدل العقاد بنجيب محفوظ( ). وقادني قدري للإلتحاق بقسم علم النفس بكلية الآداب بجامعة عين شمس لأدرس السنة التمهيدية للماجستير وبعدها دبلوم علم النفس الكلينيكي أعوام (1994 – 1995 – 1996) وكانت مادة التحليل النفسي لأستاذ واحد وكان المقرر واحداً في الشهادتين وهو حول إسهام جاك لاكان ومدرسته في التحليل النفسي. والحق أن الفائدة كانت أيضاً قليلة لندرة المراجع في هذا الشأن فلم تزد عن مقال مرحلة المرآة( ) وجدل الإنسان بين الوجود والإغتراب( ). وكتاب ريتشارد بوثبي "الرغبة والموت"( )،( ) وكتاب مالكولم بوي "فرويد ، بروست ولاكان"( ). ومنذ أن دخلت الجامعة بدأت أواظب على الحضور لمعرض القاهرة الدولي للكتاب كل عام، لإتجول بين صالات عرض الكتب، وقاعات الندوات والأمسيات، والحصول على بعض الكتب مما غلت قيمته العلمية وقلت تكلفته المالية من طبعات أغلبها لناشرين مصريين وبخاصة هيئة الكتاب ودار المعارف وسور الأزبكية وغيرها، وبعد الظهر بقليل جداً، تدفعني قدمايَّ للمشي أمام المقهى الثقافي فإذا بلوحة إعلانات مكتوب عليها "احتفالية عن مصطفى زيور" وعلى الفور أتطلع للباب، وولجته بسرعة فائقة وكان الحضور متوسطاً – وهذه عادة الندوات الثقافية في كل الدنيا - فتقدمت الصفوف لأجلس بالصف الأول من جهة اليمين، وبجواري أحد أساتذة قسم علم النفس بآداب عين شمس الذي قضى أغلب حياته المهنية بالسعودية إما متعاقداً أو مرافقاً لزوجته ولا أحسب أن نتاجه العلمي تجاوز ثلاثة كتب على أحسن تقدير، وأمامي المنصة، مقدم الندوة في المنتصف وعن يمينه أحد المتحدثين رجل يقترب من الستين عاماً يرتدي بدلة بنية اللون وكوفية قريبة من ذلك اللون، ربعة لا هو بالطويل ولا بالقصير ولا بالسمين ولا النحيف، أبيض البشرة في حمرة قليلة كأنها اللون الوردي، ولعل ذلك يعود لأصول شامية ( )، قصير الشعر نصفه أبيض اللون تقريباً، يفرقه جهة اليمين، أفلج السنتين الأماميتين العلويتين، عريض الجبهة، واسع العينين - لقد دخلت الندوة ومقدمها قد عرفه فلم أتبين اسمه، وأخذ يتكلم، فظننته أحد الذين كانا مكتوبين على اللافتة – وما إن انتهى من حديثه إلا وأخذت أصفق له مستمتعاً بحديثه المنساب في يسر جدول الماء العذب الذي خبرته طفلاً في حقول القرية، وما بصوته من طلاوة كنت قد تعودت عليها من كثرة استماعي للإذاعة لسنوات طويلة، وبلاغة في مفرداته وصوره وتشبيهاته كنت قد خبرتها في الأدب والشعر، ودقة في ضبط مخارج الحروف والألفاظ وإعرابها كنت قد خبرتها في دروس التجويد وقراءة القرآن وسماعي لكبار القراء ، وإيقاع صوتي كما في ألحان الموسيقا – سنعرف بعد حين في تسجيله على جهاز الرد Answer Machine في التليفون كم في هذا الصوت من جمال - وتعبيرات وجهه ويديه وابتساماته خلال الحديث مما يجعلك تحس بقربك منه وكأنه يوجه الكلام لك وحدك دون الحضور جميعاً، وانتهت الندوة وعلى الفور قادتني خطواتي المتثاقلة نحوه، فها هو قد غادر المنصة ليصبح في منتصف المقهى الثقافي تقريباً، واقفاً ظهره للباب ووجهه للمنصة،، - السلام عليكم - فرد وعليكم السلام - "لا فض فوك" ما كل هذا الجمال؟!! - حضرتك د.فلان.. - بابتسامة ...لا.. - الزميل من أين؟ - تبينت أن المقصود بأين ؟ جهة العمل وفي أي جامعة أو أي قسم لعلم النفس أكون. - أنا لا أعمل بالجامعة، ولكني أدرس تمهيدي الماجستير بقسم علم النفس بآداب عين شمس هذا العام (1994- 1995). - حسناً..- وأخرج كارت من جيبه، وأعطاه لي ماداً يده وابتسامته في آن .. "لازم نلتقي....... يسعدني ذلك" -. أخذت الكارت – كان صغير الحجم على غير المعتاذ ومكتوباً فيه "حسين عبدالقادر .. رقم هاتف المنزل.. وكان من الممكن أن يكتب فيه يومها ما يلي" - كما عرفت فيما بعد - "أستاذ التحليل النفسي بجامعة المنصورة، فنان قدير بالمسرح القومي، محلل نفسي، أستاذ التحليل النفسي بجامعة عين شمس وأكاديمية الفنون وسكرتير نقابة الفنانين سابقاً. كل هذه الألقاب هي بعض حقه، ولكنه تنازل عنها طواعية واكتفى باسمه فقط، وله الحق كل الحق في ذلك، فما هو بمن يحتاج للقب وظيفي يستتر وراءه، ولعلها صفة التواضع والاقتراب الحميم من الناس دون النظر لوظائفهم، فأشهد بأن كل الذين عملوا بالجامعة عندما ألتقيهم يبدون قرباً وحميمة في الحوار، وعندما أخبرهم بأني لا أعمل بالجامعة، يصبحون وكأن الطير حط رحاله على رؤسهم فأصباهم الصمت والرغبة في الإبتعاد، فما يكون مني إلا أن أبادلهم نفس الشعور والسلوك، ولكن أبداً ما رأيت في الأستاذ هذه الأفة التي حفظه الله منها (فما يسلم منها إلا من سلمه الله)، ولعل ذلك بعض ما يفسر سر العزلة المختارة - مع الإعتذار لمؤلف ومترجم العبودية المختارة – الذي ضربتها على أيامي خلال السنوات العشر الأخيرة، والتي لم يكن فيها من اتصال إلا بالأستاذ، فكنت أتصل به غباً، وأتشرف بالإقتباس من صبح ضيائه غباً أيضاً ( )، وقد يغضبه ذلك الغياب ولكن ما يهونه هو أني بعد الغياب أكون قد أنجزت شيئاً (مقالاً أو دراسة)، فقد كان يخالجني شعور بالفشل لأني لم أستطع الحصول على عمل بالجامعة، وصارحته بأن سر غيابي عنه هو ذلك الشعور ولا أحب أن أرى نظرات الشفقة في عينيه، فما كان منه إلا أن قال:" ...ومنذ متى والعمل بالجامعة دليل على شارة الإمارة، وبهذا هدأت نفسي قليلاً، حتى كانت الذكرى العشرين لعلاقتنا فكتب في إهدائه – لي - لكتاب رايش والتحليل النفسي( ) والذي كتب مقدمته :" الزميل العزيز ........لعشرين عاماً سعدت فيها بمفكر وعالم موسوعي المعرفة خسرته الجامعة وكسبه واقع أبحر في شطآنه لتخوم لا يقربها غيره،،". وأيا كانت أهداف هذه الجملة الرائقة سواء من رفع لروحي المعنوية لكي أواجه الإحباط الوظيفي، أو المجاملة الرهيفة، أو تقدير لجهدي الذي اطلع عليه،، وصدر بعضه بمقدمة رائعة كانت صاحبة الفضل في زيوع الكتاب وانتشاره، أؤكد أياً كانت الأهداف .. فقد ءآتت تلك الجملة أكلها أضعافاً كثيرة. كان هذا هو اللقاء الأول الذي جمعني بالأستاذ، وبعد أن كتبت مسودته قرأت ما كتبه هانز ساكس عن لقائه الأول بفرويد فتعالوا نقرأ ما كتبه لعلنا نقف على أوجه للشبه أو المفارقة: "أما الآن فالنوافذ معتمة والضوء الوحيد ينساب من مصابيح قليلة استقرت على منضدة المحاضر، وخلعت صفوف المقاعد المتصاعدة الخاوية على القاعة مظهراً شبحياً، ولما كنت أعرف تمام المعرفة حيائي وتخاذلي أمام أية مغامرة جديدة، ولو كانت مغامرة متواضعة مثل هذه، فقد اصطحبت معي ابن عمي، آملاً أن يزودني وجوده بالشجاعة اللازمة، ولكني شعرت في هذه الظروف بخوف يتزايد كل لحظة، وعندما دخل سيد نصف واضح أنه أستاذ، اتجهت صوب الباب، هامساً لابن عمي في اضطراب أننا قد أخطأنا المكان، فماذا كان عساه يحدث لو نجحت محاولتي في الهرب؟ يقيناً، كان دخولي مجال التحليل يتأخر سنة أو أكثر، لكن كان من المستحيل أن تأخذ حياتي كلها مجرى مغايراً. ولحسن الحظ لم أفلح. كان السيد النصف الواضح، والملتحي لحية بلون القسطل، نحيلاً متوسط الحجم، وكانت عيناه عميقتين نفاذتين وجبهته ذات ارتفاع ملحوظ عند الصدغين. قال بألطف طريقة، مشيراً لصف من ثماني أو عشر مقاعد في نصف دائرة بمقدمة المقاعد، قرب منضدة المحاضر، حيث جلس نفر من الناس: "هلا ازددتم اقتراباً وتفضلتم بالجلوس أيها السادة؟". واستجبنا لدعوته وعندما بدأ محاضرته فقدت حالاً كل أثر للحياء أو "الكف" فقد تحللت وذابت كلها في اهتمامي الشديد بما كان يقوله وبإعجابي بالطريقة التي قالها بها وكان التأثير يزداد امتداداً وعمقاً كلما ازددت إصغاءً وتعلماً. وتبدد حيائي الذي أزاحه جانباً عند لقائنا الأول وتلاشت معه موانع أخرى كثيرة وعقبات داخلية كانت تعترض طريقي، كانت الكراسي قد صفت في مقدمة المقاعد الخاوية لأن فرويد كان يكره أن يعلي صوته الذي كان ينقصه ما يدعى بالرنين "المعدني" في هذه الأصوات" ( ). وكان ذلك اليوم الذي جمعنا للمرة الأولى هو 22 يناير 1995.
شاركه على جوجل بلس

عن جريدة النداء المصرية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق