.

.

د. عبدالستار إبراهيم يكتب:السلوك التسلطي من واقع البحث النفسي العربي



يدرك من يحتك بأشخاص من النمط التسلطي بسهولة أن معتقداتهم وآرائهم وأساليب تفاعلاتهم بالناس والعالم تتسم بخصائص تميزهم عمن حولهم من غير التسلطيين، فهم أشد اعتقادا بأن القوة وممارسة السلطة والعقاب الرادع ومقابلة العنف بالعنف هي الأساليب الناجحة والوحيدة للتأثير في سلوك الأفراد وتغـيير المجتمع، وكأن علم النفس وعلوم إدارة الأزمات قد أفلست عن طرح غير ذلك من أفكار واقتراحات. ومن هذا النمط التسلطي تتسرب أفكار وتوجهات أكثر سلبية مثل: أن التنظيمات الاجتماعية والسياسية أفل أهمية، وأن التطور الإجتماعي مرهونً بوجود مجموعـة من الأفراد الأقوياء بيدهم مفاتيح كل الحلول لكل الأزمات، ولهذا تتسم آراء هذا النمط بالتعسف والانغلاق، كذلك تصرفاتهم فيها من التعالي والعجرفة علي المختلفين أو من هم أقل منزلة، بينما تتسم بالتواضع الشديد والإنصياع نحو أصحاب القوة والمراكز. إنهم يحصلون علي درجات منخفضة جدا في مقاييس الإبداع والسلوك الإيجابي ولكن مرتفعة في مقاييس الاتزان الوجداني والتقلب الوجداني: يغضبون وينفعلون بشدة، ومتصلبون، ومتطرفون ومغالون عندما يعتنقون رأيا أو سلطة، لا لأن معاييرهم وأحكامهـم تلك صائبـة، ولكن لأنها نابعــة من سـلطة خارجيــة (دينيـة أو سـياسـية، أو رسـمية، أو ربما سـلطة تقاليد معينة) يكون فـي خضوعهم لها أمانا وقوة أكبر على التأثير والهيبة في الآخـرين.
ويشكل السلوك التسلطي مشكلة إجتماعيـة ونفسـية هامـة، فقد أصبح هذا المفهـوم منذ أن أمكـن إخضاعـه للبحث السـيكلوجي من الموضوعات التى لقـيت اهتمامـاً مكثفـاً ســواء بين الباحـثين الغربـيين أو العرب بما فيهم المتحدث الحالي، حيث أمكن لنا على المستوى العربـى إجراء عدد من الدراسات المنشورة ... أظهرت نتائجها العديد من الإجابات علي بعض الأسئلة التي كان يتعذر الإجابة عنها من قبل، ومن ثم أمكن لنا أن نعرف الآن معلومات مفصلة كانت خافية عنا من قبل عن كثير من النقاط عن الشخصية التسلطية بما في ذلك:
1. الآثـار النفسية والاجتماعية المترتبـة علي شـيوع الاتجاهات التسلطية في مجتمع ما.
2. ولماذا لا يجب أن نطمئن لانتشار السلوك التسلطي في المجتمع؟
3. وما الذى يحول شخصا عاديا إلى تسلطي ؟
4. ومالذي يجب علينا عمله للإقلال من انتشار السلوك التسلطي في الشخصية والمجتمع؟
الآثـار المترتبـة علي شـيوع الأساليب التسـلطية
بينت البحث العلمي أن كثيرا من النتائج السلبية والسلوكيات المزعجة التي تواجهها مجتمعاتنا العربية في السنوات الأخيرة هي نتاج بشكل ما لسيطرة الاتجاهات التسلطية وانتشارالسمات والأفعال المرتبطة بها بما في ذلك تزايد التطرف والعنف، والإرهاب والتعصب، وتدهور القيم المتعلقة بحقوق الإنسان وغياب السلوك الإيجابي وفقر الحلول الإبداعية. ...إلخ.
أيدت بعض دراساتنا أيضا أن ارتفاع مستوى التسلطيـة في الفرد أو الجماعة يؤدي إلي نتائج سلبية مثل:
• ضعف الضبط الإنفعالى، والإفتقار للإتزان الوجداني.
• التصلب العقلى، وانغلاق المعتقدات.
• الشعور الدائم بعدم الراحـة والتهـديد خاصة في المواقف التى تتطلب تلقائيـة في الحديث أو التعبير أو السلوك بحرية.
• تزايد الشـكوى من الوسـاوس وسـيطرة الأفكار القهريـة وما يرتبط بهما من قلق وتوتـر.
• الإحسـاس بالعزلـة والاكتئاب.
ومن المؤسف أن انتشار هذه الخصائص لم تعد قاصرة علي جماعة بعينها، بل أصبحت شبه عامة بين كل الجماعات السياسية الفاعلة علي الساحة (أحيل القاريء إلي كتابنا المنشور عن المجلس ألأعلي للثقافة بعنوان: "الإيجابية وصناعة التفاؤل: نافذة نفسية علي ثورة الربيع العربي في مصر." ) وهذا ما يثير القلق وعدم الاطمئنان للانتشار الوبائي لهذا السلوك.

لماذا لا يجب أن نطمئن لانتشار السلوك التسلطي في المجتمع؟
بينت دراساتنا أيضا أن خطر هذا النمط التسلطي يتزايد خاصـة عندما فرد تسلطي أو جماعة ما سلطة فعليـة أو مركزاً من مراكز القوة. ففى داخل الجماعـة التي يحكمها أو يوجههـا شخص تسـلطي تزداد مخاوف الأفراد، وتنتشر الوشاية، والتكلف والإصطناع. وبالرغم من أن الفاعلية في أداء الدور تزداد وتتزايد القدرة الانتاجية في بداية الحكم التسلطي، وفي ظل القيادة التسلطية إلا أن هذا ينطبق على نوع الجماعة من ناحيـة، وعلى استمرارية إرتفاع الانتاجية، فإنتاجية الجماعة تزداد في المنـاخ التسـلطي ولكن إلى حين. إذ يبدأ الإنتـاج في الإنخفاض الشـديد خاصة فى حالة غياب القيادة، أو التغـير في الإدارة التسلطية. 

ما الذى يحول شخصا عاديا إلى تسلطي؟
تبين لنا أن اللبنـة الأولى في تشكيل الشخصية التسلطية تبدأ في الفترات المبكرة التى تتمثل في علاقة الطفل بالأسـرة وما تتبعه من أسـاليب في تنشئته وقد تبين أن تفاعل الأبوين مع الأشخاص التسلطيين في طفولتهم المبكرة مالت إلى :
• استخدام العقاب والضرب كوسـيلة للتأديب والتهذيب.
• قمع التلقائيـة والتسلط من جانب الأب والأم أو من يمثلهما في الأسرة.
• تجاهل الاسـتجابة لحاجـات الطفـل.
• تشجيع السـيطرة والاسـتحواذ لدي بعض أطفالهم دون البعض الآخر.
• التسامح مع العـدائية ووتشجيع رفض الآخـرين وكراهية الآخر.
• التأكيد على تعلم القواعد الخارجيـة " والأصول " الإجتماعية السائدة التي تفـوق إدراك الطفل.
• ونظرا لأن الأسرة كمؤسسـة اجتماعيـة تعكس فيما تتبعـه من أسـاليب التنشـئة والتربية عوامل اجتماعية وثقافة وبائية أعـم، فإننا نجـد أن الأسرة تتجـه تلقائياً وتغالي في تمجيد القيم التسلطيـة في عملية تنشئة الأجيال الصـغيرة.
• وعندما تكون الطاعة والانصياع مطلبين من مطالب التوافق، والنجاح المهني أو الترقي فإن الناس تتعلم الأسـاليب التسلطية مبكرا إلى أن تتحول إلى خاصية ثابتـة في الشخصية. 

مالذي يجب علينا عمله للإقلال من انتشار السلوك التسلطي
في الشخصية والمجتمع؟
أظن آنه آن الأوان إلي توجيه البحث العلمي وعدم الاكتفاء بأساليب الردع كطريق وحيد لمواجهة الجوانب السيكلوجية السلبية المرتبطة بانتشار ظواهر السلوك التسلطي بما فيها التركيز والمزيد من الوعي والبحث العلمي للمشكلات المتعلقة بالتعامل مع السلوك التسلطي، والحد من نتائجه السلبية علي الأخرين، وضحايا التسلطية من أفراد أو جماعات أو أقليات دينية أو فكرية. نحن نتطلع للمزيد من التنبه لخطورة المفاهيم التسلطية في أجهزتنا العلمية والاجتماعية المختلفة وأن يتجه اهتمامنا للبحث عن تشخيص هذه الظاهرة المسيئة ونتائجها السلبية وأن نتجه بكل همتنا للبحث عن وسائل إبداعية وإيجابية تتلاءم مع ما نطمح إليه من إطلاق الطاقة البشرية لأقصى غاياتها
شاركه على جوجل بلس

عن جريدة النداء المصرية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق