نجيب محفوظ يرى فى أحلامه رموز التطرف الفكرى
عمرو على بركات
"أسير فى الشارع وأنا على بيًنة من كل
مكان فيه، فهو عملى ونزهتى، وأصحابى وأحبائى، أحيى هذا وأصافح ذاك، غير أنى لاحظت
أن رجلاً يتعدانى بمسافة غير طويلة وغير قصيرة، وبين كل حين وآخر يلتفت وراءه
كأنما ليطمئن إلى أنى أتقدم وراءه. لعلى لم أكن أراه لأول مرة ولكن على وجه اليقين
لا تربطنى به معرفة أو مودة وضايقنى أمره فاستفزنى إلى التحدى.. أوسعت الخطى فأوسع
خطاه، أدركت أنه يبيت أمراً فازددت تحدياً ولكن دعانى صديق إلى شأن من شئوننا فملت
إلى دكانه وانهمكت فى الحديث فنسيت الرجل وانتهيت مهمتى بعد الأصيل فودعته ومضيت
فى طريق سكنى وتذكرت الرجل فالتفت خلفى فرأيته يتبعنى على نفس طبيعته.. تملكنى
الانفعال وكان بوسعى أن أقف لأرى ماذا يفعل ولكنى بالعكس وجدت نفسى أسرع وكأنى
أهرب منه وأخذ يساورنى القلق وأتساءل عما يريد. ولما لاح لى مسكنى شعرت بالارتياح
وفتحته ودخلت دون أن انظر خلفى ووجدت البيت خالياً فاتجهت نحو غرفة نومى ولكنى
توقفت بإزاء شعور غريب يوحى إلىّ بان الرجل فى داخل الحجرة."
الكاتب عمرو علي بركات |
فى هذا الحلم يتحدث"نجيب محفوظ" عن علاقته
بالتطرف الفكرى، والإرهاب العقائدى، والأصولية الدينية، ورقابتها القمعية التى
مارستها ضده عبر تاريخه الابداعى، نتيجة سيادة خطابها الأصولى على أوعية الثقافة،
فيقول واصفاً لأعماله الإبداعية:" أسير
فى الشارع وأنا على بيًنة من كل مكان فيه، فهو عملى ونزهتى، وأصحابى وأحبائى، أحيى
هذا وأصافح ذاك"، فوصف مسيرته الروائية
والقصصية بوصفه للواقع الذى يعيش فيه، فهى نتاج مشاهداته اليومية، وممارساته
لحياته الطبيعية، فهى من حصيلة"سيره فى الشارع"، ومعايشته للمكان،
والأشخاص فى وقت واحد، فشخوصه فى رواياته هى نتاج بيئتهم الطبيعية، وهو يعى هذه
العلاقة بين شخوصه، وبيئتهم، ومعايشته للاثنين معاً، فهو"على بينة من كل مكان
فيه"، وانه تعرف على هذه الشخوص، فى أماكنها بسبب طبيعة عمله، وحياته"
فهى عمله، ونزهته"، كما أن أبطال رواياته وقصصه قد عرفهم عن قرب، وعايشهم،
فهم" أصحابه، وأحبائه"، وتربطه بهم علاقة حميمية من جراء هذه الصداقة،
والزمالة فى العمل، فهو"يحيى هذا، ويصافح ذاك"، فهو على ألفة مع شخوصه،
فلم يكتب عن شخصية لم يتعرف عليها فى الحياة، ولم تكن إحدى شخصياته من بنات
أفكاره، فكلهم نتاج الواقع، وأشخاص حقيقيين.
"غير أنى لاحظت أن رجلاً يتعدانى بمسافة
غير طويلة وغير قصيرة، وبين كل حين وآخر يلتفت وراءه كأنما ليطمئن إلى أنى أتقدم
وراءه"، فى بداية مسيرته
الإبداعية، كان"الرجل" رمز للمعتقدات القديمة، وسياجها الفكرى الرقابى
"يتعداه" بمعنى أنها كانت تسبقه فى السير، على أمل أن يكون"نجيب
محفوظ" من أتباع هذه المعتقدات، وكان أنصارها فى المجتمع يرونه عن
قرب"بمسافة غير طويلة، وغير قصيرة"، فهم يرصدون فكره، وهنا يشير إلى
ثناء"سيد قطب" عليه فى بداية حياته الإبداعية، فكانت الأصولية الدينية
ترى فيه كاتباً من أتباعها فى المستقبل، ولذا كان حرص الرجل على أن"يطمئن إلى
أنه يتقدم وراءه"، ويسير على هدى مبادئه، من المعتقدات الفكرية السلفية، وهنا
يؤرخ"نجيب محفوظ" إلى مجموعة المقالات النقدية التى نشرها"سيد
قطب" فى مجلة "الرسالة" عن باكورة إنتاجه القصصى من الروايات التى
استلهم فيها التاريخ المصرى القديم، فقد كتب"سيد قطب" عن رواية"رادوبيس"،
و"كفاح طيبة" مستحسناً وهو بصدد نقده
لرواية"خان الخليلى"، فقد رآه "سيد قطب" يقدم الرواية
الواقعية المصرية الأصيلة التى تتميز عن الروايات ذات النزعة الغربية التى
يقدمها"توفيق الحكيم" مثل"عودة الروح"، حتى قال عنه:"
وكل رجائى ألا تكون هذه الكلمات مثيرة لغرور المؤلف الشاب، فما يزال أمامه الكثير
لتركيز شخصيته والاهتداء إلى خصائصه، واتخاذ أسلوب فنى معين توسم به أعماله، وطابع
ذاتى خاص تعرف به طريقته، وفلسفة حياة كذلك تؤثر في اتجاهه(سيد قطب: مجلة الرسالة،
العدد650، 17ديسمبر 1945م.)، وهنا يرى"نجيب محفوظ" فى منامه أن
"الرجل" هو"سيد قطب" رمز الإخوان المسلمين، يرصد إبداعه عن
قرب.
"لعلى لم أكن أراه لأول مرة ولكن على
وجه اليقين لا تربطنى به معرفة أو مودة وضايقنى أمره فاستفزنى إلى التحدى.. أوسعت
الخطى فأوسع خطاه أدركت أنه يبيت أمراً فازددت تحدياً"، أما"نجيب محفوظ" نفسه لم
"يكن يراه لأول مرة"، فهو يعرفه كناقد أدبى، بيد انه لم يكن متنبهاً إلى
ما توليه له الأصولية الدينية من اهتمام، ورصد، ومتابعة، على هذا النحو، يتجاوز
إطار النقد الأدبى، ولم يكن بداخله أى انتماء فكرى لهذه النوعية من التفكير،
فهو"على وجه اليقين لا تربطه به معرفة أو مودة"، وأدى هذا الشعور
لدى"نجيب محفوظ" بأنه مرصود من الفكر الرجعى فى المجتمع إلى أن
أصابته"بالضيق"، وجعله "يستفزه إلى التحدى"، فقام"بتوسعة
الخطى"، بالتوغل فى اتجاهه الروائى الاجتماعى، إلا أن الفكر الأصولى مازال
محافظاً على رصده المسبق لأعماله"فأوسع خطاه" بالمثل ليحافظ على المسافة
التى يسبق بها"نجيب محفوظ"، وعندما بدأ الفكر الأصولى يعيد تناول أعماله
من منظور دينى، تأكد أن الأصولية الدينية السائدة فى المجتمع"تبيت له
أمراً"، فأصر على تحديها، ولم يتراجع، وفى هذا الحلم يكشف"نجيب
محفوظ" عن أن السر فى اختياره للإبداع على هذا النحو كان نتيجة استفذاذ
الأصولية الدينية له، ورفضه الانصياع لرغباتها القمعية الفكرية.
"ولكن دعانى صديق إلى شأن من شئوننا
فملت إلى دكانه وانهمكت فى الحديث فنسيت الرجل وانتهيت مهمتى بعد الأصيل فودعته"، كان نتيجة استفزاز الرجعية فى المجتمع، وتحدى"نجيب
محفوظ" لها أن اتجه إلى الفكر الفلسفى والروايات الرمزية الدلالة،
فكان"صديقه" الذى دعاه إلى"شأن من شئونهما" وهو التفكير
العقلى الرمزى، كما فى القصص الرمزية الفلسفية عند"ألبير كامى"، وكانت
عند قمة حياة"نجيب محفوظ" العقلية، فقد "انتهت مهمته بعد
الأصيل"، حيث استغرق الإبداع الروائى الرمزى كل حياته الفكرية، كما استغرق
حديثه مع صديقه فى دكان المدارس الفلسفية اليوم كله إلى"بعد الأصيل"،
"فودع" متابعته للمذاهب الفلسفية، فى الفكر الغربى، بعد أن حدد مقصده
منها، وهو خلال تلك الفترة كان قد"نسى الرجل"، فلم يكن يحفل بموقف
الأصولية الدينية من أعماله الإبداعية الرمزية.
"ومضيت فى طريق سكنى وتذكرت الرجل
فالتفت خلفى فرأيته يتبعنى على نفس طبيعته"، كان"نجيب محفوظ" معتمداً على ما يوفره المجتمع من قدر
متيقن من الحرية الإبداعية وقتها، فعاد يكتب الرواية الرمزية، بتقنياته الخاصة
التى جمع فيها بين القصص الفلسفية عند الغرب، والدلالات الواقعية المصرية، كما
تجلى ذلك فى روايته"أولاد حارتنا"، وهنا عند هذه المرحلة من الحلم، يغير
الرجل رمز القهر الفكرى السائد فى المجتمع مكانه، فبعد أن كان يسير أمام
"نجيب محفوظ"، يحدث تحول فى المجتمع وفى ثقافته أدت إلى غلبة الأصولية
الدينية على ثقافته، وازدياد سطوتها الرقابية، فبات الرجل يسير خلفه، ليكشف عن
دوره الرقابى صراحة فيقول معبراً عن هذا التحول"نجيب
محفوظ":"وتذكرت الرجل فالتفت خلفى فرأيته يتبعنى على نفس طبيعته"،
وأصبح الفكر الأصولى الدينى يشكل رقابة صريحة على الإبداع فى المجتمع، وانه أعاد
قراءة أعمال"نجيب محفوظ" عبر منظور تقيمى لعقيدته الإيمانية على نحو
تكفيرى.
"تملكنى الانفعال وكان بوسعى أن أقف
لأرى ماذا يفعل ولكنى بالعكس وجدت نفسى أسرع وكأنى أهرب منه وأخذ يساورنى القلق
وأتساءل عما يريد"، شعر "نجيب
محفوظ" عندئذ "بالانفعال"، نتيجة سيطرة الرقابة الأصولية على
التفكير فى المجتمع، وكان أمامه فرصة لمواجهة الأصولية فيقول:"بوسعى أن أقف
لأرى ماذا يفعل"، ولكنه تجنبها،و"بالعكس" كان رد فعله حيالها
فقد"وجد نفسه يسرع، وكأنه يهرب منها"، وهنا شعر"نجيب محفوظ"
انه مستهدف على المستوى الشخصى من الأصولية الدينية لأول مرة فى
حياته،"فتساءل عما تريد"، وهو ما حدث عند محاولة قتله بطعنه فى رقبته من
احد أتباع الأصولية الدينية فى المجتمع.
"ولما لاح لى مسكنى شعرت بالارتياح
وفتحته ودخلت دون أن انظر خلفى ووجدت البيت خالياً فاتجهت نحو غرفة نومى ولكنى
توقفت بإزاء شعور غريب يوحى إلىّ بان الرجل فى داخل الحجرة."، كان يرتكن"نجيب محفوظ" على ما يوفره المجتمع من حرية
الاعتقاد، فقد كان"مسكنه" رمز لعقيدته الشخصية التى يؤمن بها، ولحريته
الشخصية، فالمسكن هو المكان الذى يمارس فيه الإنسان حريته الشخصية بلا منازع، أو
رقابة،"ففتح الباب ودخل دون أن ينظر خلفه"، وهو بحكم ثقافته الفلسفية لم
تكن لديه أى قناعة فكرية يؤمن بها، فقد"وجد البيت خالياً"، رمز لمذهبه
اللاأدرياتى الفكرى، ولكنه عندما"اتجه إلى غرفة نومه" حيث قناعته الإيمانية الشخصية، وعقيدته الخاصة،"توقف إزاء
شعور غريب يوحى بان الرجل فى داخل الحجرة"، فقد تمكنت الرقابة الأصولية من
اقتحام ضمائر المبدعين، والتفتيش فى إيمانهم، وداخل معتقداتهم الخاصة،
ليترجم"نجيب محفوظ" أقصى حالات الرقابة الدينية، وعصر محاكم التفتيش،
وأصبحت الأصولية الدينية تحاكم المبدعين على أساس تخمين عقائدهم الإيمانية،
وترميهم بالشك فيه، وتكفيرهم، فقد وصلوا إلى داخل"غرف النوم"، عندما
اتهموه بالكفر، وحرضوا على قتله.
فرصد"نجيب محفوظ" فى هذا الحلم سيرته
الذاتية فى علاقته مع تسيد الرقابة الفكرية الأصولية المنزع على إبداعه، وهو فى
نفس الحلم يرصد أزمة المجتمع ككل حيال هذه الرقابة النابعة من الخطاب الأصولى
الدينى، وما لها من نتائج على حرية الاعتقاد بين أفراد المجتمع، تؤدى إلى تقيد
حرية أبناؤه، وتزرع الشك فى عقائدهم بدعاوى الرقابة الدينية، والرجعية الفكرية،
التى ينتج عنها تأجيج العنف بين أفراد المجتمع، وتحول دون استقراره، وتطلعاته نحو
غذ أفضل.
0 التعليقات:
إرسال تعليق